ليسَ من قبيلِ الصُّدفةِ ولا من مظاهرِ التّرفِ أنْ تجعلَ الحركاتُ والأحزابُ الثّوريّةُ منْ مبدأ النّقدِ والنّقدِ الذاتيِّ واحدةً من مرتكزاتِ حياتِها التّنظيميّةِ الدّاخليّةِ وأنْ تساوي بين الالتزامِ بهِ وبينَ قدرةِ الحركةِ أو الحزبِ على تطويرِ أدائهِ وتجاوزِ أخطائهِ، فليسَ النّقدُ والنّقدُ الذّاتيُّ سوى "صراطٍ مستقيمٍ" يتمُّ خلالَ عبورِهِ رميُ آثامِنا وأخطائنا والتّخلّصُ من عبئها لنتمكّنَ من إكمالِ مسيرةِ العملِ الجماعيِّ ونحنُ أنقياءُ من رِجسِها. ولم تكتشف الحركاتُ والأحزابُ هذا المبدأَ أو تخترعْهُ من العدَمِ، فهو ملازمٌ للحياةِ الاجتماعيةِ منذُ فجرِ التّاريخِ الإنسانيِّ، وهو جزءٌ من عقيدةِ كلِّ الدياناتِ التوحيديّةِ والمذاهبِ الفلسفيّةِ، حيثُ تشكّلُ "التّوبةُ" شرطًا لمحافظةِ المؤمنِ على الانتماءِ لدينِهِ وتعملُ على نقاءِ إيمانِهِ رغمَ ما يرتكبُهُ بين الحينِ والآخرِ من نزواتٍ تزيّنُها لهُ نفسُهُ الأمّارةُ بالسّوءِ. لقد جعلَ اللهُ سبحانَهُ الاعترافَ بالذّنبِ شرطًا للمغفرةِ، وفي هذا إقرارٌ بأنَّ ثقافةَ الاعترافِ بالخطأ هي الطريقُ الوحيدُ لتجاوزِهِ والانتقالِ إلى العملِ بمخزونٍ غنيٍّ من التّجربةِ بكلِّ ما فيها من أخطاءٍ وإنجازات.

 

لا تستقيمُ الحياةُ الدّاخليةُ إذن دونَ امتلاكِ القدرةِ والشّجاعةِ على قولِ الحقيقةِ سواءً كان ذلكَ متعلّقًا بالآخرينَ أو بنا نحنُ كمشاركين في حياةِ الحركةِ أو الحزب. وهنا يجبُ التّوقفُ عندَ بعضِ الظّواهرِ التي تقتلُ القدرةَ على التّقييمِ الصحيحِ والصحيِّ لأداءِ الأفرادِ والهيئاتِ بغضّ النّظرِ عن مستوى مسؤوليّاتِها ومجالِ اختصاصِها. 

 

أوّلاً: لا يعني النقدُ اعتناقَ ديانةِ الكُفْرِ بكلِّ ما حولَنا، فليسَ منَ النّقدِ في شيءٍ شيطنةُ الآخرينَ ووصمُهم بكلِّ ما هو سلبيٌّ ومُشينٌ، وكأنّنا نحنُ وحدَنا من يمتلكُ الحقَّ والحقيقةَ، وقد أصبحَ هذا الأسلوبُ نهجًا يكادُ يكونُ عامًا في عصرِ وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ التي تشكّلُ نقيضَ الحياةِ التنظيميّةِ ومقتَلَها، وهذا يستدعي نبذَ كلِّ مَن يساهمُ في تشويهِ صورةِ إخوتِهِ ورفاقِهِ، فهذا النّمطُ من السّلوكِ ليسَ هو النّقدُ الذي تتحدّثُ عنه اللوائحُ المُنَظِّمةُ للعمل الجماعيِّ، وإنّما هو تعبيرٌ عن سوءِ النيّةِ وتَعمُّدِ الإساءةِ للآخرينَ دونَ أنْ يكونَ لذلكَ أدنى علاقةٍ بالمصلحةِ العامّة.

 

ثانيًا: على الطرفِ المقابلِ لثقافةِ الكُفرِ بما حولَنا تقفُ ثقافةَ التملُّقِ بما تمثِّلهُ من ترويضٍ للنّفسِ وللإطارِ ليتعايشَ مع امتهانِ الذّاتِ والكذبِ والنّفاقِ من أجلِ تحقيقِ مصلحةٍ شخصيةٍ ليسَ لها ما يسنِدُها أو يبرّرُ السّعيَ من أجلِها، فالمتملّقُ في العادةِ لا يحترمُ الإطارَ والحركةَ أو الحزبَ، ولا يثقُ بنفسِهِ ولا بمشروعيّةِ ما يسعى لتحقيقِهِ، ولو كانَ غيرَ ذلكَ لاعتمَدَ قولَ الحقِّ والحقيقةِ دون اللجوءِ إلى الطّرقِ الالتفافيّةِ للوصولِ إلى غايتِه.

 

ثالثًا: بينَ المغالاةِ في النقدِ إلى حدِّ الشّيطنةِ وبينَ اتّباعِ مذهبِ التّملقِ يتمترسُ العاجزون عن الاعترافِ بأخطائهم، وهذهِ فئةٌ لا تقلُّ خطرًا عن سابقاتِها، إذ يفتقرُ المنتمونَ إليها إلى فضيلةِ التّواضُعِ والتّعاملِ معَ الذّاتِ بنفسِ المقاييسِ التي يستخدمونَها لتقييمِ غيرِهم، وفي هذا نزعةٌ خطيرةٌ نحو التمادي في الأخطاءِ ومراكمتِها حتى تصبحَ نهجًا مستقلّاً بذاتهِ يكونُ في البدايةِ موازيًا للنهجِ الذي ارتضاهُ لأنفسهِم بقيّةُ أعضاءِ الحركةِ أو الحزبِ، ثمَّ يتطوّرُ ليصبحَ نقيضًا لهُ، إلى أن ينتهي به الأمرُ إلى محاولةِ حرْفِ الحركةِ عن مسارِها، وإن لم يستطِعْ سنراهُ يخرجُ من الإطارِ مُختَلِقًا آلافَ المبرّراتِ ومتناسيًا أنَّ الخللَ يكمنُ في داخلِهِ هو وفي عدمِ قدرتِهِ على تقييمِ أدائهِ وتصحيحِ أخطائه.

 

رابعًا: أمامَ كلِّ ما سبقَ من الظواهرِ السّلبية يتجلّى دورُ التّقييمِ والمحاسبةِ على الأخطاءِ وتقديمِ الحوافزِ للمثابرينَ على أداءِ واجبهِم وتنفيذِ ما يُكلَّفونَ بهِ من مهامّ، وهذا هو الدّورُ الأساسيُّ للإطارِ المُشرِفِ على الأعضاءِ وبشكلٍ متدرِّجٍ حتى يصلَ إلى أعلى الهرمِ القياديِّ المسؤولِ عن رسمِ السياسةِ العامّةِ واختيارِ الأشخاصِ المؤهَّلينَ لتنفيذِ ما يتمُّ وضعُهُ من خططٍ لخدمةِ الأهدافِ المرحليةِ والاستراتيجيّة. وبدونِ اعتمادِ مبدأ المحاسبةِ والمكافأةِ فإنَّ الإطارَ المسؤولَ يتحمّلُ المسؤوليّةَ الأولى عن انتشارِ كلِّ ما سبقَ الحديثُ عنهُ من مظاهرِ الخللِ في حياةِ الحركةِ أو الحزبِ، وتتعاظمُ مخاطرُ النّكوصِ عن تطبيقِ هذا المبدأ كلّما طالت مسيرةُ العملِ الثّوريّ، لأنَّ الحياةَ الدّاخليةَ لا تصمدُ في الغالبِ أمامَ مخاطرِ التأقلُمِ معَ الواقعِ بكلِّ سيّئاتِهِ وتفقدُ تدريجيًّا حصانتَها أمامَ المُنتفعينَ وغيرِ المؤمنينَ لا بالعملِ الجماعيِّ ولا بإمكانيّةِ تحقيقِ الهدفِ النّهائيّ. من هنا تأتي أهميّةُ الاستمرارِ في ضبطِ اتجاهِ البوصلةِ التي قد تضلُّ الاتجاهَ إذا تُركت دونَ عنايةٍ ورقابةٍ ومتابعةٍ يوميّةٍ تحافظُ على رؤيةٍ واضحةٍ تجمعُ حولَها أعضاءَ ومناصري الحركةِ الثوريةِ وتبقي التّفاؤلَ بالنّصرِ ثقافةً عامّةً لا تتأثّرُ بما قد يعترضُ المسيرةَ من عقباتٍ مهما كانَ حجمُها، فالحركةُ الثوريةُ وُجِدتْ أصلاً للتصدّي للمهامِّ التي تبدو مستحيلةً للوهلةِ الأولى، لكنّها تصبحُ بالمواظبةِ على العملِ وحُسنِ الأداءِ والتّقييمَ هدفًا في متناوَلِ الملتزمينَ بالفكرةِ الثوريةِ والمناضلينَ من أجلِ تجسيدِها.

 

*النقدُ والنّقدُ الذّاتيِّ من جهةٍ، والمحاسبةُ والمكافأةِ من جهةٍ أخرى هُما كفّتا التوازنِ في مسيرةِ الحركةِ الثّوريةِ، وأيُّ خللٍ في هذه المعادلةِ ستكونُ نتيجتُهُ الحتميّةُ حَرْفَ مسارِ الحركةِ عن النّهجِ الذي يضمنُ الوصولَ إلى الهدف.

 

٢٣-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان