قديماً قالَ شاعرٌ عربيُّ يقالُ أنّهُ حطّانُ بنُ المُعلّى:

وإنّما أولادُنا بينَنا..

أكبادُنا تمشي على الأرضِ

 

ربّما يكونُ بيتُ الشّعرِ هذا تلخيصاً لمكانةِ الكبدِ في الثّقافةِ العربيّةِ القديمةِ وفي الموروثِ الشعبيِّ الذي تتعاقبُ الأجيالُ على تناقُلِهِ والمحافظةِ عليه، فالكبدُ عندَ العربِ يسبقُ القلبَ في أهميّتِهِ، ربّما لأنّ للقلبِ مكانةً أخرى خصّهُ بها الشّعراءُ عندما جعلوا منهُ رمزَ الحُبِّ وعنوانَ الغزَلِ وعذابِ العاشقين. أمّا الكبدُ فلُهُ مكانةٌ أكثرُ شموليّةً واتساعاً، إذْ إنّهُ يتجاوزُ حدودَ عاطفةِ الحُبِ بينَ رجلٍ وامرأةٍ ليصبحَ رديفاً لأغلى ما نملكُ، ومنْ أغلى لدينا من أطفالِنا؟

 

للكبدِ في جسمِ الإنسانِ مكانةٌ خاصّةٌ، وهو أكبرُ الأعضاءِ وزناً، إذ يصلُ إلى ١٧٠٠ غرام عند الرّجُل، ويشاركُ في كلِّ وظائفِ الجسمِ الحيويّةِ، وإذا تعطّلَ عملُهُ فلا يمكنُ للحياةِ أنْ تستمرَّ، فهو المسؤولُ عن تنقيةِ الجسمِ من الشوائبِ والسّمومِ والفضلاتِ، وفيهِ يتمُّ تخزينُ مصدّرِ الطاقةِ الرئيسِ للجسمِ (السُّكّر)، والكبدُ هو "مصنعُ" البروتيناتِ المسؤولةِ عن مناعةِ الجسمِ والمحافظةِ على ضغطِ الدّمِ ومنعِ النّزيف، إضافةً إلى إنتاجِ الفيتاميناتِ بما تمثّلهُ منْ موادّ ضروريّةٍ في كلِّ العملياتِ الحيويّةِ للجسم. ونتيجةً لإدراكِ أهميّةِ الكبدِ فقد تمَّ تخصيصُهُ ليكونَ لوحدِهِ مجالَ اختصاصٍ طبيٍّ، وهو اختصاصُ أمراضِ الكبِد المعروف بِاسم Hepatology، المشتقِّ من الاسمِ اليونانيِّ للكبدِ وهو Hepar، ويشملُ هذا الاختصاصُ عدداً هائلاً من الأمراضِ الوراثيّةِ والمُكتسَبةِ بما في ذلكَ التهابُ الكبدِ الوبائيِّ الذي تتسبّبُ بهِ فيروسات مختلفة، علاوةً على أمراضِ الكبدِ المرافقةِ لأمراضِ العَصرِ كالسُّمنةِ والسُّكريِّ والوجباتِ السريعةِ والمشروباتِ الملوّنةِ، إضافةً إلى ما يجرّهُ تعاطي الكحولِ من تدميرٍ لكلِّ وظائفِ الكبدِ وهو ما ينتهي في حالاتٍ عديدةٍ إلى التشمّع.

 

التهابُ الكبدِ الوبائيِّ هو أحدُ الأمراضِ الأكثرِ انتشاراً في أنحاءِ العالم كافّةً، وهناكَ عددٌ كبيرٌ من الفيروسات والبكتيريا وغيرها من الكائنات الدقيقةِ التي تسبّبُ هذا المرضَ، لكنّ أهمّها ثلاثةٌ:

 

الأوّل هو فيروس التهابُ الكبدِ الوبائي A أو مرض اليرقانِ الغذائيّ، وهو مرضٌ غيرُ خطيرٍ يصيبُ الأطفالَ وصغارَ السّنِّ، ومرتبطٌ بتناولِ الغذاءِ أو الماءِ الملوّثِ بفضلاتِ شخصٍ مريضٍ، وهذا بدورهِ متعلّقٌ بتردّي الأحوالِ المعيشيّةِ وعدمِ الالتزامِ بأصولِ النظافةِ الشخصيّةِ والعامّة. ولا يُحدِثُ هذا النّوعُ مضاعفاتٍ على المدى الطويل، ويمكنُ تفاديهِ باحترامِ أصولِ النظافةِ وتطويرِ شبكاتِ الصّرفِ الصّحيِّ، إضافةً إلى اللّقاحِ المتوفّرِ والفعّال ضدّ هذا المرض.

 

أمّا الثّاني فهو فيروس التهابِ الكبدِ الوبائيّ B، وينتقلُ عن طريقِ الدّمِ والجنسِ واستخدامِ الأدواتِ الملوَّثَةِ دونَ اخضاعِها للتعقيمِ اللازم، وهذا يشملُ العملياتِ الجراحيّةَ وعلاجَ وصيانةَ الأسنانِ إضافةً إلى محلّات الحلاقةِ والوشْمِ وإحداثِ الثقوبِ في الأذُنِ. وقد تناقص عددُ المصابين بهذا المرضِ بشكلٍ هائلٍ بعدَ أن أصبحَ التلقيحُ ضدّهُ إجباريّاً في معظمِ دولِ العالم. لكنّ هذا لا يعني أنّ الخطرَ قد انتهى، حيث أنّ هناكَ عشرات الملايين من المصابينَ بهذا الفيروس في الصّينِ وغيرها من الدولِ الآسيويّةِ، وما زالَت الأبحاثُ جاريةً لإيجادِ علاجٍ يقضي على العدوى نهائياً، إذ إنَّ العلاجَ المتوفّرَ حاليّاً يؤدي فقط إلى وقفِ تكاثرِ الفيروس والحدِّ من الالتهابِ الذي يسبّبُه في الكبد، وهذا يعني استمرار وجودِ الفيروس في الجسمِ، وهو أحدُ العواملِ الرّئيسة المسبّبةِ لسرطانِ الكبد.

 

أمّا الثالثُ فهو فيروس التهابِ الكبدِ الوبائيّ C والذي يشكل آفةً تشملُ العالَمَ كلّهُ، بما في ذلكَ الدّولَ المتطورةَ، إذ تقدَّرُ نسبةُ المصابينَ به في أوروبا وأمريكا بواحدٍ ونصفٍ بالمئةِ من عددِ السّكانِ، وهذا يعني على سبيل المثالِ وجودَ عدّةِ ملايين من المصابينَ في الولاياتِ المتّحدةِ وحدها. ينتقل هذا الفيروس إلى الإنسانِ بنفسِ طريقةِ انتقالِ الفيروس B. وهناك ظاهرةٌ ما زالَ المختصّونَ عاجزينَ عن تفسيرها وهي النسبةُ العاليةُ من المصابينَ بهذا الفيروس بين المصريّينَ والتي تتراوحُ بينَ عشرةٍ وعشرينَ بالمئةِ من السكّانِ. وقد أدى انتشارُ هذا المرضِ في الدولِ المتطورةِ وما يحدثُهُ من مضاعفاتٍ تصلُ حدَّ تليّفِ ثم تشمّعِ الكبدِ وما ينتجُ عن ذلكَ من فشلِ هذا العضوِ الحيويّ في أداءِ وظائفهِ والذي يؤدي إلى الوفاةِ إذا لم يتمّ علاجُهُ بشكلٍ جذريٍّ بواسطةٍ زراعةِ كبدٍ جديدٍ بكل ما يحيطُ بذلكَ من تكلفةٍ ماديّةٍ واعتباراتٍ أخلاقيّةٍ، هذا كلّهُ أدّى إلى تركيزِ الجهودِ على اختراعِ أدويةٍ قادرةٍ على التخلّصِ النهائيِّ من العدوى والقضاءِ على الفيروس، وهو ما تمَّ مع بداية عام ٢٠١٥، حيثُ أنّ الأدويةَ التي تمَّ اختراعُها تقضي على الفيروس بنسبةٍ تقاربُ المئةَ بالمئةِ، وهو علاجٌ مريحٌ للمريضِ يتناولُهُ عن طريقِ الفمِ لفترةٍ تتراوح بين شهرين وستّةِ أشهرٍ دون أن يكون له أعراضٌ جانبيّةٌ خطيرةٌ، بينما كان العلاجُ قبل ذلك يتكونُ من حقنةِ اسبوعيةٍ وحبوبٍ عن طريقِ الفم يتمُّ تناولُها لمدةِ سنةٍ على الأقل، ولم تكن فعاليتُها تتجاوزُ الخمسينَ بالمئةِ، هذا إضافةًُ إلى قائمةٍ طويلةٍ من الأعراضِ الجانبيّةِ الخطيرةِ.

 

*شاركَ أحدُ العُلماءِ المصرييّن العاملين في أمريكا في اختراعِ العلاجِ الجديدِ لمرضِ التهاب الكبدِ الوبائيِّ C، وكان سعرُ الدّواءِ لعلاجِ كلِّ مريضٍ يصلُ إلى ١٠٠ ألف دولار، إلا أنَّ العالِمَ المصريَّ قد اشترطَ لتسجيلِ الدّواءِ أنْ يباعَ في وطنِهِ مصرَ بواحدٍ بالمئةِ من سعرهِ، وبالفعل تبلغُ تكلفةُ العلاجِ في مصرَ ألفَ دولارٍ فقط، وهو ما ساهم في علاجِ أعدادٍ كبيرةٍ منَ المصرييّنَ من هذا الوباءِ القاتِلِ، وتستطيعُ مصرُ أنْ تصفَ هذا العالِمَ بحقٍّ بأنّهُ كبدُها الذي يمشي على الأرضِ. 

 

١٢-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا، أخصائي أمراضِ الكبد والإيدز، د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان