تقرير: فاطمة المجذوب

 في عزلةِ السجَّان وتحت سطوته يقبعُ آلاف الأسرى الفلسطينيين، من بينِهم العديد من القَاصرين والنساء والمرضى. أسرى فرض عليهم الاحتلال حياةً لا تُطاق ولا تتوفَّر فيها أدنى الحقوق الإنسانيّة.
فمنذ العام 1948، اعتمد الاحتلال الإسرائيلي منهجية الاعتقالات والأسر كأسلوب من أساليبِ السيطرة على الشعبِ الفلسطيني، ووأد قوّته وتمسُّكه بأرضه، وقد شكَّلت هذه الاعتقالات جزءًا أساسيًّا من الممارسات اليومية بحقِّ شعبنا، وأداةً للانتقام وبثِّ الرُّعب في قلوبهم لا سيما في قلوب الأطفال، فلم يسلَم من ذاك المحتل لا طفل ولا امرأة ولا شيخ ولا قيادي ولا صحافي ولا نائب ولا وزير.

طفولةٌ سرق فرحتها مُحتَل
اعتقالات ليلية، واعتداء بالضرب المبرح، واستهداف متعمَّد بالرصاص المطاطي والحي أحيانًا قبل الاعتقال، هذا مجرّد جزءٍ من تنكيل العدو الإسرائيلي وممارساته بحقّ الأطفال قبل أن يقتادهم مكبَّلي الأيدي ومعصوبي العيون، ليشرع بتعذيبهم أثناء التحقيق معهم، وانتزاع "اعترافات" منهم تحت التهديد.
ولَعلَّ من أقبح أشكال الاعتقالات ما طال الطفل أحمد مناصرة الذي بات من كثرة التعذيب يكرر كلمة "مش متذكر" طوال التحقيق معه، ومن منّا أيضًا يستطيع أن ينسى محمد الدرّة أيقونة الانتفاضة الثانية الذي احتمى بأبيه، ولكنّ رصاص المحتل وُجّه إليه بشكل مباشر، فأودى بحياته شهيدًا. أمَّا عن الطفل فوزي محمد الجنيدي الذي تكالب عليه وضربه أكثر من عشرة جنود في آن واحد فقد أثبت للعالم أجمع أنَّ أطفال فلسطين مسلحون بالإرادة والعزم في مواجهة محتل مدجج بكل أنواع الأسلحة إلا سلاح الشجاعة.

نساءٌ يؤرقن مضاجع العدو
تتعرّضُ الأسيرات الفلسطينيات إلى أشكالٍ متعدّدةٍ من الانتهاكات، كالإيذاء اللفظيّ الخادش للحياءِ أو الجسدي، والعَزلِ الانفرادي، وتهديد الحامل بإجهاضِها أثناء التحقيقِ معها، ووجود آلات تصوير تنتهك خُصوصيّتهن وسط زنازين لا تصلحُ للعيش، وإخضاعهنّ للتحقيق فترات طويلة، وحرمانهن من مسلتزماتهنّ الخاصة، علاوةً على الاقتحامات الليلية لغرفهن، وضربهن وتعذيبهن عقب نقلهن للمحاكم على أيْدي قُواتِ "النحشون" المتخصّصة بعملية النقل.
ولكلِّ أسيرةٍ قصتُها الخاصة، ولكن للأسيرة الأمّ قصة تخترق الأسر لتبرق لأطفالها بأشواقِها ومحبّتِها، ترسمُ وتكتبُ وتبكي لتعبِّر عن مدى شوقها، علَّها تُبدّد وحشةَ الأسر الذي تعيشُ فيه، فمَن يستطيع أن ينسى إسراء الجعابيص التي اعتقلت دون مبرّر منطقي، إسراء التي رآها طفلُها الوحيد خلفَ القضبانِ ولم يعرِفْها بسببِ الحروقِ الشديدةِ على وجههَا، إذ كان هذا المشهدُ كفيلاً بأن يحرق قلبَ إسراء كما احترقَ وجهُها.

الإهمال الطبي.. إعدام بطيء
قائمة طويلة من شهداء الحركة الفلسطينية الأسيرة ارتقوا داخل معتقلات الاحتلال الإسرائيلي، إمَّا بالقتل المتعمَّد أو بسياسة الإهمال الطبي، والقائمة مرشَّحة بالزيادة في ظلِّ ما تمارسه إدارات سجون الاحتلال من سياسات الإعدام البطيء بحقِّ الأسرى الفلسطينيين خاصّةً المرضى منهم، وقد لا يكون آخرهم الأسير بسّام السايح (47 عامًا)، الذي استشهد أمس الأحد.
فقد وصل عدد شهداء الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، إثر استشهاد الأسير بسّام السايح، إلى 221 شهيدًا منذ العام 1967، من بينهم 65 أسيرًا توفوا نتيجة لسياسة الإهمال الطبي، فيما أعلنت الحركة الوطنية الأسيرة حالة الاستنفار والغضب، ما ينذر بمواجهة قريبة مع قوات القمع التابعة لمصلحة سجون الاحتلال.
من جهتها، أدانت وزيرة الصحة في الحكومة الفلسطينية في رام الله، د.مي الكيلة، جريمة الاحتلال الإسرائيلي بالمماطلة وإهمال علاج الأسير السايح، وأوضحت في بيان صدر عنها أن هذه الجريمة تسببت في إعدام الأسير السايح ببطء.
وأوضحت أن الشهيد السايح كان يعاني من سرطان العظام منذ عام 2011، وفي عام 2013 أُصيب بسرطان الدم، وتفاقم وضعه بشكل ملحوظ نتيجة لظروف الاعتقال والتحقيق القاسية التي تعرض لها منذ عام 2015، وخلال هذه المدة أبقت إدارة معتقلات الاحتلال على احتجازه في ما تسمى معتقل "عيادة الرملة" التي يطلق عليها الأسرى "المسلخ".
وقالت: "إنَّ إعدام الأسير السايح، وفي حال استمرار جريمة الإهمال الطبي بحق الأسرى، فإنَّه لن يكون الأخير"، لافتة إلى أن المعطيات الرسمية تشير إلى وجود نحو 700 أسير يعانون أمراضًا مختلفة، منهم 160 أسيرًا مصابون بأمراض مزمنة بحاجة إلى متابعة صحية حثيثة.
وطالبت الوزيرة، المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والإنسانية، بكسر صمتها والعمل بجدية لحماية الأسرى خاصة المرضى منهم، وإجبار حكومة الاحتلال الإسرائيلي على الالتزام بالقانون الدولي الإنساني.

اعتقالاتٌ تطال الرموز الدينية والوطنية
لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي باعتقال المدنيين، بل هو لم يوفّر كل من يقع تحت مرمّى أسلحته، فقد طالت الاعتقالات أهالي عاصمتنا المحتلة مدينة القدس ومقدساتها وقياداتها الوطنية، كمحافظ مدينة القدس عدنان غيث، ومفتي الديار المقدَّسة السيّد محمد حسين، والعديد من القادة والكوادر الفتحاوية والمنتمين للقوى الوطنية الفلسطينية.

يفضّلون الموت على المعاملة المهينة
باتت معركة الكرامة أو معركة الأمعاء الخاوية جزءًا ثابتًا من حياة المعتقلين داخل سجون الاحتلال.  فالإضراب عن الطعام بشكل فردي أو جماعي، سلاحٌ يلجأ إليه الأسرى الفلسطينيون للتنديد بالإجرام والإهانة التي يتعرضون لها في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي، مثل البقاء في العزل الانفرادي لفترات طويلة، والتفتيش العاري المهين، والحرمان من النوم، والضرب المبرح.
وتعتقل سلطات الاحتلال الإسرائيلي مئات الأسرى الفلسطينيين اعتقالاً إداريًّا أي دون توجيه أي تهم ضدهم. ويُحرم هؤلاء المعتقلون من أبسط حقوقهم الأساسية، مثل الزيارات العائلية، أو حتى البدء بإجراءات قانونية رسمية لرفض اعتقالهم.

معطياتٌ وأرقام
في ظلِّ تزايد الاعتقالات وارتفاع أرقامها في كل عام، ولأنَّ قضية الأسرى قضية حق، وإحدى أرسخ دعائم مقومات القضية الفلسطينية، ووفاءً للأسرى وتضحياتهم أقرَّ المجلس الوطني الفلسطيني خلال دورته العادية في السابع عشر من نيسان عام 1974، ومنذ ذلك التاريخ يحيي الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات يوم الأسير.
وبحسب معطيات نادي الأسير الفلسطيني، بلغ عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال حتّى تاريخ 31 كانون الثاني عام 2019 نحو 5700 أسير، منهم 48 سيدة، فيما بلغ عدد المعتقلين الأطفال نحو 230 طفلاً. وفي سياق تكريس سياسة الاعتقال الإداري، أصدرت سلطات الاحتلال 95 أمرًا إداريًّا، من بينها 50 أمرًا جديدًا، ووصل عدد المعتقلين الإداريين إلى نحو 500 معتقل.

الضرب بالقوانين عرض الحائط
هو خرقٌ لجميع القوانين الدولية والحقوق الإنسانية، ملفات مؤلمة ومعطيات غير مقنعة يتذرّع بها الاحتلال كدليل للاعتقال، ولا يأخذ بعين الاعتبار وجود أسرى يعانون من أمراض مختلفة منها الخطيرة، الأمر الذي يزيد من تفاقم الضغط النفسي والخطر المهدِّد لحياتهم. فلا يوجد بيت فلسطيني إلا وذاق مرارة الاعتقال، وعاش أحد أفراده عتمة الزنازين ولكن رغم كل ما يتعرضون له من ظلم وقمع، ورغم انتظارهم للحرية بفارغ الصبر، فإنّهم هُم الأحرار خلف الزنازين.