تُصادفُ اليومَ الذكرى الثّمانونَ لاندلاعِ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ التي بدأتْ باجتياحِ جُيوشِ ألمانيا النازيّةِ لبولندا في الأولِ من أيلول/سبتمبر ١٩٣٩، ليختفيَ هذا البلَدُ مُجدّدًا عن الخريطةِ السياسيّةِ لأوروبا حتى نهايةِ الحربِ عام ١٩٤٥، بعدَ أنْ استعادَ استقلالَه عامَ ١٩١٨، وهو استقلالٌ جاءَ عقبَ فترةٍ استمرّت ١٢٣ عامًا خضعتْ خلالَها بولندا للتّقسيمِ بين جيرانِها: روسيا القيصريّةِ وألمانيا والإمبراطوريّةِ النّمساويةِ-الهنغاريّةِ.

كغيرِها من الحُروبِ فإنَّ روايةَ المُنتصرينَ في الحربِ العالَميّةِ الثّانيةِ هي الرّوايةُ الوحيدةُ التي يُدوّنُها كاتِبُ التّاريخِ، ولا أحدَ غيرَ المَهزُومينَ يَمْثُلُ أمامَ المَحكمةِ، حتّى لو كانَ المنتَصِرُ قد استخدَمَ السّلاحَ النوويَّ لإخْضاعِ عدوِّهِ وإجبارِهِ على الرّضوخِ والاستسْلام. 

 

معَ وُقوعِ بولندا تحتَ الاحتلالِ النازيِّ انتقلَتْ مؤسّساتُ الدّولةِ إلى المنفى، فقدْ توزّعَت فلولُ الجيشِ البولنديِّ المهزومِ في دولٍ عديدةٍ، واتّخذتْ الحكومةُ منْ لندن مقرًّا لها، ومن هناكَ أشْرَفتْ على تَنظيمِ المقاومةِ السريّةِ ضدَّ الاحتلالِ النازيّ داخلَ بولندا، وأعادتْ تشكيلَ وتوحيدَ الجيشِ البولنديّ المشتّتِ خارجَ حدودِ بلَدِهِ، ليشاركَ هذا الجيشُ مع الحُلفاءِ في كلّ المعاركِ الحاسمةِ أثناءَ الحرب. وكانتْ فلسطينُ مَمرًّا لآلافِ الجنودِ البولنديّين المقاتلينَ تحتَ قيادةِ الجنرال أنْدِرْس Anders في طريقِهم للمشاركةِ في مَعركةِ العَلَميْنِ في الصّحراءِ الإفريقيّةِ الكُبرى جَنْبًا إلى جَنبٍ مع الجيشِ البريطانيِّ بقيادةِ مونتغمري في مواجهةِ الجُيوشِ الألمانيّةِ بقيادةِ رومل -ثعلبِ الصحراء.

 

لَسْنا في واردِ الخَوضِ في تفاصيلِ الحَرْبِ العالميَّةِ الثانيةِ وما تسبّبتْ بهِ من خسائرَ وما حَصدَتهُ منْ أرواحِ ملايينِ الضّحايا من كافّةِ الشُّعوبِ والأعراقِ والأديانِ، لكنّنا لا بدَّ أنْ نتوقّفَ أمامِ ظاهرتَيْنِ ولّدَتْهُما هذهِ الحَرْبُ وكانَ لهما أكبرُ الأثَرِ على التّعجيلِ بوقوعِ نَكْبةِ الشّعبِ الفلسطينيّ. الظّاهرةُ الأولى هي ما تَسبّبتْ بهِ الحَربُ منَ ارتفاعِ وتيرةِ الهجرةِ اليهوديّةِ إلى فلسطينَ نتيجةً لاستغلالِ الحركةِ الصُّهيونيّةِ لمأساةِ اليهودِ في أوروبا بعدَ أنْ كادتْ هذه الهجرةُ أن تتوقَّفَ قبلَ الحَرْبِ وبِشَكلٍْ باتَ يُهدّدُ مشروعَ هذهِ الحركةِ لإقامةِ دولةٍ لليهودِ في فلسطين. أمّا الظاهرةُ الثانيةُ فهي هُروبُ آلافِ الجُنودِ اليَهودِ من صفوفِ الجَيشِ البولنديِّ، وانضمامُهم إلى العصاباتِ الصّهيونيّةِ، وهو ما شكّلَ دعمًا هائلاً لهذهِ العصاباتِ نظرًا لما كانَ الجُنودُ الهاربونَ يتمتّعُونَ بهِ منْ تدريبٍ وتَجهيزٍ وقُدراتٍ قتاليةٍ متطوّرةٍ، وكانَ على رأسِ هؤلاءِ الهاربينَ الإرهابيُّ مناحيم بيغن ذو التاريخِ الأسْوَدِ الحافلِ بالجرائمِ ضدَّ شعبِنا وخاصّةً قيادتُهُ للعصاباتِ التي نفّذَتْ مذبحةَ دير ياسين.

 

ليسَ هناكَ إجماعٌ بينَ المُؤرِّخينَ على عَددِ الضّحايا اليهودِ الذينَ سقطوا أثناءَ الحَربِ العالَميّةِ الثانيّةِ. وعلى الرّغمِ من ذلكَ يجبُ التأكيدُ على القضايا التالية:

 

أوّلاً: لا يُمكِنُ للشَّعبِ الفلسطينيِّ إلّا أنْ يكونَ ضدَّ الجرائمِ النازيّةِ بحقِّ شعوبِ أوروبا، بما في ذلكَ ضدَّ أتباعِ الديانةِ اليهوديّةِ، وهذا قَبْلَ كلِّ شيءٍ موقفٌ أخلاقيٌّ وإنسانيٌّ لا يَخضَعُ للحِساباتِ السّياسيّةِ أو غيرِها، فنحنُ ضَحيّةٌ للجرائمِ الصهيونيّةِ المُستَمرّةِ منذُ ما يزيدُ على مئةِ عامٍ، ولأنّنا كذلكَ لا يُمكنُ أنْ نَسْمحَ لهذهِ الجرائمِ بأنْ تُجرِّدَنا منْ إنسانيّتِنا ومنْ واجِبِنا بالتّعاطفِ مع الضَّحيّةِ مَهْما كانَ دينُها أو عِرْقُها أو لَونُ بَشَرتِها.

 

ثانيًا: لا يَحقُّ لدولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ الاستعماريِّ في فلسطينَ أنْ تُنَصِّبَ نَفسَها وَريثًا لآلامِ اليهودِ وعذاباتِهم أثناءَ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ، لأنَّ الدّولةَ الصّهيونيّةَ قامتْ على أنقاضِ تاريخِ وجغرافيا وثقافةِ وحياةِ شَعْبِنا، ولأنّها استخدَمَتْ وتَستخْدمُ ضدَّهُ من صُنوفِ القَتلِْ والإرهابِ والتَّمييزِ العُنصريِّ ما يؤهّلُها لتكُونَ وَريثةً للجلّادينَ القتَلةِ لا لضَحاياهُم منَ اليهودِ أو غيرهِم.

 

ثالثًا: ليسَ من الأخْلاقِ في شيءٍ أنْ ينْفيَ بعضُ قصيري النّظَرِ حَقيقةَ ما تعرّضَ لها اليَهودُ من عَمليّاتِ الإبادةِ التي نفّذَتْها آلةُ القَتْلِ النّازيّةُ، وليسَ منَ المَنْطِقِ أنْ يَخوضَ أحدٌ في مَزادٍ عقيمٍ لتَحْديدِ عَددِ الضّحايا، وكأنَّ تقليصَ العَددِ ينفي وقوعَ الجريمةِ أو يقلِّلُ منْ بشاعَتِها، أو كأنَّ زيادتَهُ تُعطي الدّولةَ الصُّهيونيةَ الحقَّ باحتلالِ وَطنِنا وتَشريدِ الجُزْءِ الأكبرِ من شَعبِنا وتبريرِ الإرهابِ الذي تمارسُهُ ضدَّ مَن بقيَ صامدًا في وطنِهِ رغمَ أنفِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ العنصريّ.

 

*ذَهبَ هتلر ونظامُهُ النازيُّ إلى مَزابلِ التّاريخِ، ولنْ يَلقى الاحتلالُ الاستيطانيُّ الاستعماريُّ الإسرائيليُّ في فلسطينَ إلّا المَصيرَ ذاتَهُ، أمّا نحنُ فسنَبْقى صامدينَ في وطَنِنا، مُتمسّكينَ بإنسانيّتِنا ومُنحازينَ إلى ضَحايا الظُّلمِ والإرهابِ والتّمييزِ العُنصريِّ أينَما كانوا.

*كيفَ لا نَنْحازُ إلى الضَّحايا ونَحْنُ ضَحِيَّةٌ مثلَهُم؟

 

١-٩-٢٠١٩

 

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان