خاص مجلّة "القدس" العدد 355| في أكثر من موقع سياسي يتم التعامل مع "الفلسطيني"- قضية وشعبًا- كنقطة ضعفٍ بالإمكان التلاعب بحيثياتها ومكانتها التاريخية والسياسية والوطنية. وإذا ما نظرنا بعين المراقب لكل ما يجري من أحداث تتم على شكل خطوات تمهيدية، لوجدنا أن الهدف هو تصفية القضية الفلسطينية من بوابة افتعال قضية جاذبة ومحورية في الخليج تحوز على أولوية ذوي الشأن هناك. فيما بالمقابل تحاول بعض الدول الهامشية شراء براءة شرعيتها من خلال التمادي في العلاقة مع الكيان الصهيوني ممهورًا بتخلٍّ يشبه الطلاق الكامل مع فلسطين- شعبًا وقضية.
وإذا أمعنّا النظر جيدًا في هذه الحقبة السوداء لوجدنا أنها المرّة الأولى في التاريخ التي ينشأ فيها تحالف ثلاثي الأقطاب: مسيحي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا. إسلامي بقيادة بعض دول الخليج. ويهودي بقيادة الكيان الصهيوني. وعلى جبهةٍ أخرى موازية هناك تمهيد من هذا الحلف- غير المقدَّس، لتغذية صدوع كيانية بعضها ظاهر في العلن وبعضها لم يزل قيد التكوين في عدد من البلدان الوازنة في المنطقة. ملخّص المشروع يقوم على أساس تغذية المساعي الانفصالية لدى بعض الأقليات المصنَّفة قوميات- كالكرد والأمازيغ ومسيحيي السودان ومصر. وفي حال اكتملت شروط نجاح هذا المشروع سوف يتم بناء تحالف معه من قبل الثلاثي الأول لاضعاف الكيانات الهشة أصلا وجعلها تستسلم بشكل نهائي للأمر الواقع المرسوم.
الكيان الصهيوني يطمح لدور قيادي يفتح الطريق إلى إقامة ما يسمّى "إسرائيل الكبرى" من داخل الحصن- الذي هو الكيان الصهيوني حاليا، نظرًا لاستحالة انفتاح الكيان على محيطه المختلف بسبب التركيبة البنيوية المحافظة للمجتمع الصهيوني، والحذر الدائم من المفاجآت غير المحسوبة في هذا السياق بسبب النمط العنصري والعدواني للتشكّل الاجتماعي- الأيديولوجي للمجتمع الصهيوني بحسب نظرته إلى الآخر، الذي لا يعني لهم سوى سوق لتصريف البضائع والسياحة والقبول بتنفيذ المؤامرات التي تستهدف الخارجين عن طوعهم وإملاءاتهم. فيما بالمقابل لا يمكن للكيان الصهيوني تمثيل دور المدافع عن الآخرين وخوض الحروب لأجلهم، لأن الدم الصهيوني لا يمكن أن ترضى ثقافتهم الأيديولوجية أن يراق في سبيل مصلحة أية دولة أخرى. ولأن العقل الصهيوني يرتكز على استثمار صراعات الآخرين وإمكاناتهم لتعزيز مصالحه وتمرير سياساته التي تخدم الكيان الصهيوني فقط.
من هنا لا بد من الاشارة إلى أن الكيان الصهيوني على استعداد دائم لتمويل وتفعيل الصراعات الناشئة في المنطقة دون الاستعداد للانخراط المباشر في ميادينها ذات الكلفة البشرية.
مقابل ما سلف يصف بعض المحللين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه بارع في استخدام أسلوب التاجر لا السياسي، من خلال استعمال هيبة وسطوة الولايات المتحدة إقناعا وبلطجة وتهويلا، دون الاستعداد للذهاب أبعد من ذلك، فيما الطغمة المحيطة به والمؤلفة من بولتون كوشنر وفريدمان، والتي تنتمي إلى البعد الأيديولوجي للمشروع القاضي بإقامة إسرائيل الكبرى والتمهيد لظهور المخلّص، هي التي تدفع باتجاه التصعيد ولا تتردد باستعدادها تجاوز سياسة حافة الهاوية المعتمدة حاليا إلى إشعال المنطقة بحرب لا تبقي ولا تذر... هنا تبدو فلسطين ثانويّة في العلن إنما مركزية بالهدف النهائي للمشروع. أي أن العنوان إيران كدولة خارجة عن قانون الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما، نظرًا لإعاقتها التنفيذ الأقل كلفة للمشروع ولكونها تمثّل نموذج الفزّاعة الدائمة للدول الخليجية القريبة منها، فيما محصلة الهدف تذهب باتجاه تأمين الكيان الصهيوني إلى الأبد والتمهيد لإسرائيل الأمبراطورية- كنموذج مصغر للولايات المتحدة في المنطقة.
ومن خلال ما تقدَّم أيضا يبدو أن سياسة الرئيس الأميركي هي الأكثر واقعية نظرا لاقتراب موعد حملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة ووضع الرئيس ترامب لا يحتاج أية مفاجأة غير محسوبة في إدارة الأزمة الناشبة مع إيران حاليا، لأنه الرئيس الأكثر جاذبية للساخرين والقانونيين والسياسيين على السواء، نظرا لافتقاده أصول الدبلوماسية وأدبياتها، ولكونه أحرج الولايات المتحدة في الكثير من المواقف المرتجلة وغير اللائقة بالدولة العظمى الأكبر في العالم.
لا يخفى عن بالنا هنا مستوى التطابق بين الثقافة الأمبريالية القائمة على احتكار السوق وفرض الشروط التي ترسّخ هيمنة الادارة الأميركية دونما أخذ بالمعيار الانساني والأخلاقي، بصفتهما معيقتان للسياسة التي تقوم على الربح من خلال الهيمنة. فيما الثقافة الصهيونية تقوم على المعايير ذاتها بأبعاد عنصرية تخدم البعد الديني في مآلها الأخير.
لذلك لا بد من القول بأن الكيانين الأميركي والصهيوني، اللذان قاما على أنقاض الشعوب الأصلية في القارة الأميركية وفلسطين لا يمكن أن يعملا بمعايير الضمير الإنساني وأخلاقه، لأنهما نشآ مشوّهين أساسًا، ولأن العالم بالنسبة لهما مجرّد سوق تسويقية لمختلف السلع المادية والمعنوية. حذارِ من التمادي في ابتلاع الطعم الأميركي- الصهيوني في الخليج وغير الخليج. ولا بدَّ من الإشارة إلى السياسة التاريخية لبريطانيا العظمى، التي شكّلت دائما الدفيئة العميقة المنتجة للمشاريع الاستعمارية القديمة والحديثة، والتي لا تتردَّد بالمفاخرة في كونها الأم الروحية للولايات المتحدة وإسرائيل على السواء، ناهيك عن كونها المصمّم الأصلي للمنطقة وصانعة الواقع الذي لم نزل نعيش تداعياته حتى الآن، والذي سوف نعاني منه إلى أمدٍ بعيد.
لذلك قد نشهد المزيد من التخلي الرسمي الخليجي عن القضية الفلسطينية، ونشهد بالمقابل المزيد من الوضوح في تعمّق العلاقة مع الكيان الصهيوني، ونشهد أيضا المزيد من الحصار والتضييق على القيادة والشعب الفلسطيني معا، كنتائج مباشرة للضغوط الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية تحت مسمّيات ووعود زائفة. لم يكن تفصيلا ما جرى في وادي الحمّص- صورباهر- قضاء القدس في الوقت الذي كان وفد عربي يزور الكنيست والقدس ويلتقي رئيس حكومة الاحتلال. أكثر من سبعين شقة سكنيّة احتفل المحتلون بتدميرها معا. إن ما جرى في وادي الحمص هو تمثيل نموذجي للعنصرية في أقصى تجلياتها وأبعادها...
أمام المشهد الحالي: هل نحن بصدد إعادة تموضع سياسي للقضية الفلسطينية؟ وهل بالامكان الخروج بأقل الأضرار من نفق الواقع الحالي؟
حركة حماس لم تتردّد بإعلان كونها البديل لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي أصلا لم تكن يوما إلا الخنجر الممعن في طعن القضية من خاصرتها. هل من يقظة تعيدها إلى صوابها أم أننا أمام حال "فالج لا تعالج"، وبالتالي فلسطين هي قطاع غزة بالنسبة لها ... ونقطة على السطر؟
إن سياسة الرقص بين المتناقضات التي تمارسها حماس حاليا لا يمكن لها أن تنتج سوى المزيد من تكريس أمر واقع الانقسام الداخلي الفلسطيني، كونها تستقوي بالآخرين على الداخل الوطني دون أن تغيّر شيئا في خارطة الاحتلال المتمادية، بل بذلك تدعمه في استخدام نقطة الانقسام والتصادم بين شطري فلسطين- الضفة وغزة.
لا يجدي القول يا وحدنا، لكن قدَر هذا الشعب خوض غمار الأزمات ودفع فواتير المآزق والانسدادات المتنقلة بين الأقطار والمحاور. لكن قدرَه أيضا أن يبقي شعلة الكفاح والنضال مرفوعة... بقبضة من إيمان واحتساب ثابتين. فلا صفقة القرن ولا كل الإحتيال الأميركي- الاسرائيلي على القضية والقانون الدولي... سوف يكتب لهما النجاح. المرحلة صعبة نعم. لكن الصمود من خلال تقنين الكلفة مطلوب الآن... وإلى حين.