لا تحتاج الوطنية إلى نظريات، لأنها بكل بساطة منهج حياة كل مخلوق على الأرض، يتوجّها الإنسان بأرقى معانيها ومفاهيمها، لكن المنهج التربوي يصقلها ويطهرها من شوائب تؤثر حتمًا على آلية ذهن الإنسان أن بقيت على حالها وفي مكامنها.
تستميت المخلوقات البرية والمائية والبرمائية والطائرة بما فيها النباتات من اصغر نبتة حتى اضخم شجرة في العالم للبقاء في مواطنها الأصلية أو العودة إليها بعد كل رحلة قصيرة أو طويلة تفرضها الطبيعة، وهذا أمر بات معلومًا لدى الباحثين في هذه التخصصات وعلماء الطبيعية.
يصل الإنسان إلى مرحلة التضحية بحياته في سبيل ليس البقاء في وطنه وحسب بل للديمومة الأبدية فيه له ولأبنائه وذريته وذريتهم وكل من يأتي بعدهم، وقد نذهب إلى حد القول بانعدام وجود معيار محدد للوطنية من حيث المفهوم العام الشامل لها، فالآدمي البشري المولود في الأدغال الذي اتخذها موطنا يستطيع التعبير عنها وإدراكها، وكذلك يستطيع الفيلسوف والمفكر والأستاذ الجامعي والكاتب وكل شخص التعبير عنها بتفاصيل يصل بعضها درجة غير مسبوقة من الإبداع، وهذا يتطلب قدرات فكرية وذهنية مميزة لتحقيق ذلك، فتتجسد في وجهين يكمل احدهما الآخر ولا يمكن فصلهما عن بعضهما، الأول التضحية بالذات بما فيها الحياة لضمان البقاء للوطن، والآخر الارتقاء بالذات لضمان ديمومة الحياة للوطن وللإنسانية.
 الفكرة اسم واحد لكواكب لا محدودة، تمضي في مسارات كونية لا نهائية، لكنها جميعا تدور حول كوكب واحد مشع عرفته أمة الإنسان منذ نشأتها بالوطنية، وبذلك نستطيع توسيع مساحة الوطن الجغرافية إلى ابعد نقطة في الكون، ونحافظ على حدود سيادتنا فيه القائمة فعلا وماديا سواء كانت الحدود قصيرة أو طويلة، فالطائر مثلا لا يحتاج من الدنيا اكثر من مكان صغير آمن لصنع عش والتفقيس فيه لضمان نوعه، لكنه يجوب فضاءات الدنيا ويطير من سماء قارة إلى سماء أخرى، وكأنها وطنه اللانهائي أيضًا، ولا عجب أن بعضها يهلك في الطريق وهذا الذي نسميه في عالم الإنسان (التضحية) ولكن النتيجة أنّ النوع دائم ولم يزل.
لم يعد مقبولاً لدى المجتمعات الإنسانية صب الوطنية في قوالب محددة، واحتكارها في نظرية أو تعريف، ذلك لارتباطها بفكر الإنسان الذي لم تعرف الإنسانية أنه توقف للحظة عن النمو والتطور، أو التقدم في المسارات المؤدية نهايتها إلى الحقيقة، لذا فان التعبير الذي هو ارقى نتاج فكر الإنسان الذي يتجسد ثقافة وعلومًا وكيانات حضارية مادية بات دليلا حسيا على مستوى الوطنية في عقل ونفس أي امرئ أو امرأة في هذا العالم، علمًا أن الأمر لا يحتاج إلى لغة محددة لإيصال رسالة الوطنية، لكونها لغة إنسانية يستطيع كل الناس في الدنيا فهمها واستيعابها وقراءتها أيا كانت أعراقهم وجنسياتهم ولغاتهم الأصلية.. فالفنون مثلا باعتبارها أرقى أشكال التعبير عن الوطنية على أنواعها لا تحتاج لترجمة، اذا يكفي أن تكون مجسمة بأبجدية الحب والمحبة، أبجدية العلم والمعرفة، أبجدية الحق والصدق والوفاء والإخلاص، لتبلغ قلوب وعقول الناس وتسهل على بصيرتهم الوصول إلى جوهر معانيها وفهم مقاصد رسالتها.
نعتقد في هذا السياق بضرورة فتح الآفاق أمام أجيال الشعب الفلسطيني بما يمكنهم لرؤيتها متحررة من أساليب وسلوكيات ومسارات واحدة ضيقة، حيث يمكننا اطلاق ابن الوطن في مركبة التربية الوطنية إلى فضاء الحقائق المادية والمعرفة والعلم، منتصرا لعقله بحواسه التي اذا ايقن وآمن بقدراتها فانه سيصبح قادرا على أن يكون في اقرب نقطة من الحقيقة. ومن منا نحن الشعب الفلسطيني لا يريد وضع الحقيقة والحق الفلسطيني أمام بصيرة الناس في الدنيا؟!