ماذا يعني كلُّ هذا الاهتمامِ بنفْضِ غُبارِ الصمتِ الذي يُغطّي أرشيفَ الدولةِ العبريةِ بما يُخفيهِ منْ وثائقَ يُجهدُ قادةُ إسرائيلَ أنفسَهم في سبيلِ إخفائها عن أعينِ صحفيّةِ أو باحثٍ يخجلون قليلاً من إرثٍ يحملونَهُ في جيناتِهم الوراثيةِ الملطخةِ بالشعورِ بالذّنبِ في إطارِ كذبةٍ كُبرى اسمُها دولةُ اليهودِ الهاربينَ من المذبحة؟
لنْ يَجِدَ الباحثونَ في هذا الأرشيفِ شيئًا سوى ما يُثبِتُ مصداقيّةَ الروايةِ الفلسطينيةِ التي نَقلَها شعبُنا للعالمِ معَ مفاتيحِ البيوتِ وهو يغادرُ وطنَهُ تحتَ وطأةِ المجازر التي ارتكبتْها العصاباتُ الصهيونيةُ بشكلٍ مُمنهَجٍ وضمنَ مَنظومةٍ متكاملةٍ من أوامرِ قياداتِ هذهِ العصاباتِ حتى أدنى أدواتِ القتل.
لمْ يكُنْ آباؤنا وأجدادُنا يبحثونَ عن سببٍ يُبرّرون بهِ اقتلاعَهم منْ وطنهِم عندما حَملوا معهُم في تغريبتِهم نحوَ المجهولِ شهاداتِ المجازرِ والاغتصابِ والنّهبِ والسرقةِ والتدميرِ الذي تعرّضتْ لها بيوتُهم وممتلكاتُهم وقراهُم، فلا شيء أعزَّ لدى الفلسطينيِّ من أرضهِ وبيتِه، لكنّهُ وَجدَ نفسَهُ وحيداً أعزلَ في وَجْهِ المجازرِ التي تعرّضَ لها وعدمِ قدرتهِ على الدفاعِ عن نفسهِ أمامَ تفوّقِ العصاباتِ الصهيونيةِ المدجّجةِ بالأسلحةِ والكراهيةِ، ولَمْ يكُنْ أمامَهُ -وهوَ المسكونُ بشرفِ الدفاعِ عن أطفالِهِ وعرضهِ- سوى الخروجِ من وطنِه بحثًا عن مكانٍ آمنٍ يقيهِ شرَّ هذه العصابات.
لقد دأبتْ الروايةُ الصهيونيةُ على ترديدِ الاتّهامِ للفلسطينيينَ بأنهُم غادروا فلسطينَ بشكلٍ طَوعيٍّ أو تحتَ تأثيرِ "مناشداتِ" الدولِ العربية، وكانَ الهدفُ منْ ذلكَ، إضافةً إلى تشويهِ صورةِ الفلسطينيِّ والتشكيكِ بقوّةِ ارتباطهِ بوطنهِ، هو التنصُّلُ من المسؤوليةِ القانونيةِ والأخلاقيةِ عنْ هذهِ الجرائمِ وعن الظُّلمِ التاريخيّ الذي لحقَ بالشعبِ الفلسطينيّ على أيدي العصاباتٍ الصهيونيةٍ التي لم تتردّدْ في استخدامِ نفسِ الجرائمِ والمجازرِ التي استخدَمَها النازيّونَ ضدَّ مواطني دُولٍ أوروبيةٍ عديدةٍ -بما في ذلكَ اليهود- أثناءَ الحربِ العالميةِ الثانية.
نحنُ على يقينٍ أنَّ الكشْفَ عن الوثائقِ الإسرائيليةِ والبريطانيةِ المتعلِّقةِ بالجرائمِ الصهيونيةِ التي رافقت النكبةَ وتسبّبتْ بها سيُقوّضُ الأساسَ الأخلاقيَّ الكاذبَ الذي تستَّرتْ بهِ إسرائيلُ منذُ قيامِها، وهو ادعاؤها أنَّها دولةُ اليهودِ الناجين من المحرقةِ النازيّةِ، والحقيقةُ أنها دولةٌ قامتْ على معاناةِ شعبٍ بأكملِهِ وعلى أنقاضِ حضارتِهِ وثقافتِهِ ووجودِهِ المتجذّرِ في ترابِ وطنِهِ، ومثلما لم تَسقُطْ جرائمُ النازيينَ بالتقادمِ، سنَظلُّ نطالبُ بأن يَتمّ التعاملُ بنفسِ المعاييرِ مع جرائمِ الحربِ والتطهيرِ العرقيَّ التي مهّدتْ لقيامِ إسرائيل، وكانتْ السببَ المباشرِ للنكبةِ الفلسطينية.