خاص مجلة القدس| العدد 349 لشهر آب 2018
تقرير: نادرة سرحان

منذُ أكثر من ستةٍ وثلاثين عامًا في مدينة صور، وتحديدًا في مخيَّم البرج الشمالي، حصلت الفاجعة الكبرى، إذ استحالَ المخيَّم ركامًا، وصُبِغَت الجدران بالدماء بدل الطلاء، وتحوَّلت ضحكات الأطفال إلى صمتٍ مُطبقٍ وحكايات الجارات إلى قصصٍ منسيةٍ حينَ ارتكبت (إسرائيل) واحدةً من أبشع مجازرها بحقِّ الفلسطينيين.
ففي السابع من حزيران عام 1982 قصفَت قوات الاحتلال الإسرائيلي ملجأ نادي الحولة بمَن فيه بصواريخ وأسلحةٍ مُحرَّمة دوليًّا بزعم وجود مقاتلين فلسطينيين فيه، فكانت تلك المجزرة شاهد عيان على إجرام الكيان الإسرائيلي وتنكيله بالشعب الفلسطيني أينما حلَّ ووُجِدَ.


مجزرة نادي الحولة
تعرَّض لبنان خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي إلى القصف والحصار، واستشهد الكثيرون من أبنائه، ولا يخفى على أحدٍ بأنّ الفلسطينيين واللبنانيين تشاركوا المُرّ والحزن والموت معًا.
وفي ظلِّ الحصار الشديد الذي فرضتهُ (إسرائيل) على لبنان بشكل عام بما فيه من مخيَّمات وتجمُّعات فلسطينية، كان لمخيَّم البرج الشمالي حصّة الأسد.
فنتيجةً لصوت القصف وأزيز الطائرات الإسرائيلية، توافد الفلسطينيون آنذاك لملجأ نادي الحولة، حيثُ احتمى الأطفال والأُمّهات والشيوخ ظنًّا منهم بأنَّ الملجأ سيحميهم، ولكنّ الموت كان لهم بالمرصاد، حيثُ أقدمت الطائرات الإسرائيلية في ذلك اليوم على قصف الملجأ بوحشيّة ما أدَّى لاستشهاد عددٍ كبيرٍ من المحتمين داخله تجاوز عددهم ستة وتسعين شخصًا ماتوا حرقًا وذابت أجسادهم جرّاء استخدام العدو الإسرائيلي سلاح الفسفور المحرَّم دوليًّا. وبسبب شدّة ذوبان أجساد الشهداء لم يكن من الممكن حتّى التمييز بين أجساد الأطفال والكبار أو بين النساء والرجال، فدُفِنَ الضحايا في مكان استشهادهم لتعذُّر نقلِ الجُثث المقطَّعة والمحترقة إلى المقبرة، وشُيِّد في ذلك المكان نصب تذكاري تخليدًا لذكراهم ولكي لا ينسى أحد دماء الشهداء الطّاهرة.

الشهيدة الحيّة
أُطلِقَ عليها لقبُ "الشهيدة الحيّة" لأنَّها كانت الناجية الوحيدة من مجزرة نادي الحولة. هي لمعات محمد طه ابنة مخيَّم البرج الشمالي والشاهدة على هول المجزرة وبشاعتها. كانت لمعات تعيش في منزل جدّتها في المخيَّم لكون أهلها محاصرين في مدينة بيروت بسبب ظروف الحرب، وعندما اشتدّت وطأة الحرب لجأت ابنة الثلاثة عشر عامًا آنذاك ومن معها من مدنيين إلى الملجأ.
وحول أحداث ذلك اليوم تقول لمعات: "بعد أن اشتدَّت وطأة الحرب وتسارعت وتيرتها، أوينا إلى الملجأ لكي نكون في مكانٍ أكثر أمانًا. وفجأةً لم نعرف من أين أتى القصف، إذ قامت طائرات الاحتلال الإسرائيلي بقصفِ باب الملجأ، وعندما هربنا باتّجاه الباب الثاني قَصَفته كذلك، وفي هذه اللحظة لم أرَ أو أفكّر بشيء سوى صورة الأشلاء أمامي والتي لا تزال حتى اليوم محفورةً في ذاكرتي".
وتضيف: "بعد أن استيقظتُ، وجدتُ نفسي بين أيادٍ إسرائيلية، وعرفتُ أنَّ مُسعفي نجمة داوود الحمراء التابعة للكيان الإسرائيلي هُم مَن نقلني إلى مستشفى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة. لم أتعرَّف إلى جسدي حينها بسبب تشوّهه بالكامل، كما أنّهم منعوا الصليب الأحمر من زيارتي وعاملوني كأسيرةٍ لديهم. ورغم إصابتي وألمي لم يتوانوا عن تعذيبي، فكانوا يضعون السلاح ملاصقًا لرأسي ويُمرِّرونه على جسدي المليء بالندوب والحروق لكي ينتزعوا مني اعترافًا لا أملكه حتى".
وعن كيفية عودتها إلى لبنان، تُجيب لمعات قائلةً: "بقيتُ لمدة شهرين أتعرَّض للتعذيب والعزل الانفرادي والرش بخراطيم المياه، ولكن عندما تأكَّدوا بأنَّ لا فائدة مني أطلقوا سراحي وعُدتُ حينها إلى لبنان".
وبسؤال لمعات عن رمزيّة لقب "الشهيدة الحية" بالنسبة لها، تقول: "لقبُ الشهيدة الحيّة فخرٌ بالنسبة لي، فقد شاء الله أن أبقى حيّة لكي أكون شاهدةً على همجية الاحتلال، ولكن أُمنيتي الآن هي أن أحظى بالفخر الأكبر وهو أن أصبح شهيدةً بحقّ وألتحقَ بقافلة الشهداء في سبيل الوطن".

جراحٌ لا تُشفى وذكرياتٌ تأبى النسيان
لأحمد حسين الحسين روايته الخاصّة مع المجزرة، فهو لم يكن حينها في الملجأ لكنَّه خسِر عائلته التي قضت تحت القصف، ولم يعلم بذلك إلّا بعد ثلاثة أيام لأنَّه كان في مدينة صيدا.
ويقول الحسين لمجلّة "القدس": "خسرتُ إحدى عينَي خلال فترة الحرب بعد أن اعتقلتني (إسرائيل) في معتقل أنصار وعذَّبتني، ففقدتُ عملي، ولكي أُعيل أُسرتي وافقتُ على عرض أخي بأن أعمل معه على عربة لبيع البندورة في صيدا، وتركتُ أهلي في مخيَّم البرج الشمالي".
ويتابع: "كانت ظروف الحرب تمنعنا من التواصل، فلم أكن أعرف عنهم أيَّة أخبار إلّا إذا جاء أحد المعارف إلى صيدا وأخبرني، كما حصل تمامًا عندما استشهد أولادي الثلاثة وابنتَاي الاثنتان وأمي وزوجتي وزوجة ابني وحفيدتي".
ويختمُ حديثه مُستذكِرًا مَن رحلوا بقوله:"لا تُوجَد قبور لهم لكي أجلس إلى جانبهم وأخبرهم باشتياقي لهم، ولكنَّني أذهب كلَّ يوم إلى نادي الحولة حيثُ النصب التذكاري، وأقرأ لأرواحهم الفاتحة من المكان الذي عادت فيه إلى خالقها".
بدورها تحملُ سماح محمد عبدالله ذكرى أليمة في جعبتها، فقد خسرت أكثر من 15 فردًا من عائلتها في هذه المجزرة من بينهم إخوتها الأربعة.
وتقول سماح مُشيرةً إلى المقبرة: "هُنا دُفِنَ إخوتي الأربعة بأشلائهم بعد أن ذابت أجسادهم داخل الملجأ. رغم مرور 36 عامًا على رحيلهم، ولكنَّنا ما زلنا في العائلة نستذكرهم ونبكي على فراقهم، وكأنّه كان في الأمس القريب، وفي الوقت ذاته نحنُ نفتخر بأنّنا أهل الشهداء، فهذا شرفٌ لنا، لكنَّني دائمًا أقول للعالم أجمع إنَّ حقَّ إخوتي لن يذهب هدرًا، وسننتقمُ من (إسرائيل) ولو كان آخر يومٍ لنا".
وتبقى كلمة "مجزرة" الكلمة المرافقة لكلِّ وجودٍ فلسطيني على مرِّ السنين، فمنذُ أن هُجِّرَ الفلسطيني وهو يُواجهُ ويلات الحرب وبشاعة المجازر الإسرائيلية.
لمعات، أحمد، سماح وغيرهم الكثيرون من مخيَّم البرج الشمالي خسروا الكثير في تلك المجزرة وما زالوا يحملون في قلوبهم حزنًا عميقًا، بل إنَّ كلَّ بيتٍ في أرجاء المخيَّم يحملُ وجعًا ويعيش جرحًا منذ أيام المجزرة لغاية يومنا هذا.