خاص مجلة "القدس" العدد 347 أيّار 2018

تتوالى الأحداثُ في التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني، إذ ترفضُ الأعوام أن تمرَّ مرورَ الكرام على هذا الشعب، وتتنافسُ فيما بينها لتكون الأكثر تسجيلاً للأحداث المأساوية في تاريخه. سبعون عامًا مضت على نكبة العام 1948، لكنَّ العام 2018 أبى أن يمرَّ بدون أن يُضيفَ مأساةً جديدةً إلى النكبة الأولى، هي نكبة توازي في ثقلها نكبة 1948، هي نكبة عاصمة الشتات الفلسطيني... نكبة مخيَّم اليرموك.
ذلك المخيَّم الذي تأسَّس في العام 1957 جنوب العاصمة السورية دمشق، والذي يبلغُ عددُ سُكانه 220 ألفًا، لطالما اعتُبِرَ التجمُّع الأكبر للفلسطينيين في الشتات، ومنه برزَ عددٌ كبيرٌ من قادة الثورة الفلسطينية. وبِهِمَّةِ أهله استطاع هذا المخيَّم أن يتحوَّل إلى مدينة صغيرة فيها كلُّ مستلزمات الحياة، وأصبح مركزًا اقتصاديًّا يستقطبُ سكان العاصمة دمشق لانخفاض الأسعار فيه.

اندلاع الأزمة السورية
مع نشوبِ الأزمة السورية في العام 2011 لم يستطع المخيَّم تحييدَ نفسِهِ عن الأحداث الجارية في مختلف أنحاء سوريا نظرًا لملاصقته للعاصمة دمشق، وأصبحت الأطراف السورية المتصارعة تتصارع فيما بينها للسيطرة عليه بدون أيّ اعتبار لخصوصية المخيَّم الفلسطيني، وعلى الرغم من محاولة سكان اليرموك تحييده عن الأحداث الجارية إلّا أنَّهم فشلوا في ذلك، لتبدأ بعدها ملامح نكبة اليرموك تلوح في الأُفُق.
ولم تشفع استضافة أهالي المخيَّم للمهجَّرين السوريين من مختلف المحافظات السورية في تحييد المخيَّم عن المعركة السورية على اعتبار أنَّ أهالي المخيَّم كانوا من أوائل من فتحَ منازلهم لاستضافة النازحين السوريين بغضِّ النظر عن انتمائهم السياسي، وهو ما جعلهم عُرضةً للبطش من الطرفَين، واتهامهم من قِبَل الأطراف المتصارعة بالوقوف إلى جانب الطرف الآخر.
وفي بداية العام 2013 بدأت الأحداث تتسارع مع دخول المعارضة السورية إلى أرض المخيَّم، فردَّ النظام السوري سريعًا على هذا الدخول، بأن أمطر المخيَّم بعشرات قذائف الهاون والغارات الحربية، فكانت الحصيلة سقوط العشرات من أبناء المخيَّم بين شهيد وجريح. ولم ترحم المعارضة السورية سكان المخيَّم فاحتجزتهم وأخذتهم دروعًا بشرية، وشرعت تُنكِّل بهم وتصادر أرزاقهم وأملاكهم، لتبدأ بعدها رحلة النزوح القسري الفلسطيني إلى خارج المخيَّم.
الخروج القسري من اليرموك
مع الهدنة الأولى بين النظام والمعارضة السورية في آواخر العام 2013 هرعَ الآلاف من أبناء مخيَّم اليرموك إلى خارج المخيَّم تاركين وراءهم منازلهم وأرزاقهم وحيواتهم التي ألفوها منذ نكبة فلسطين في العام 1948، حتى وصل عدد النازحين من المخيَّم في أيام عدة إلى نحو 90% من السُّكان الأصليين، بينما رفض الباقون الخروج لرفضهم فكرة الهجرة القسرية، وكانت الغالبية العظمى من هؤلاء من كبار السن والعَجَز الذين لا حول لهم ولا قوّة على مغادرة المخيَّم.
"كانت رحلةُ الخروج من المخيَّم أشبه برحلة الخروج من فلسطين بعد إعلان (دولة الكيان الصهيوني). بدأنا نمشي من منطقة إلى أُخرى حتى وصلنا إلى الحدود اللبنانية. وهناك لم يوفِّرنا النظام إذ قام باعتقالي وأولادي لمدّة يومين للتحقيق معنا، لكنَّهم سرعان ما أطلقوا سراحَنا"، يقول أحمد غنوم – 65 عامًا- أحد سكان مخيَّم اليرموك الذين التقتهم مجلّة "القدس" في مخيَّم شاتيلا في بيروت.
ويُضيفُ: "ما بعد اليرموك ليس كما قبله، فكلُّ شيء تغيَّر في حياتنا. فقدتُ منزلي ومصدر رزقي وأصدقائي وأحد أبنائي نتيجةً للحرب السورية. كنا نعيشُ نحن والاخوة السوريون بهدوء وأمن، لكن مع اندلاع الحرب السورية تغيَّر كلُّ شيء".

الحصار الأول لمخيَّم اليرموك
"بعد الهجرة القسرية، ذاقَ من قرَّر البقاء في المخيَّم طعمَ الحصار الذي بدأ في تموز من العام 2014، ومع هذا الحصار افتقر المخيَّم لأبسط مقومات الحياة، فلا ماء ولا كهرباء ولا طعام، ما دفع الأهالي إلى أكل الأعشاب عن جنبات الطريق، وفي أحيان أخرى كان يطبخ هؤلاء الأعشاب كحساء للأطفال والمرضى. ولم يقف الأمر عند النقص الحاد للغذاء، إنَّما تعدَّاه ليصبح مجاعةً بكلِّ ما للكلمة من معنى، واستشهد نتيجة لذلك العشرات من أبناء المخيَّم".
هذه الكلمات يؤكِّدُها خالد (اسم مستعار)- 23 عامًا- من سكان اليرموك سابقًا، والذي التقته "القدس" في العاصمة بيروت. خالد عايشَ الحصار الأول للمخيَّم، وهو الذي قرَّر البقاء مع عائلته داخل المخيَّم لرفض والده التشرُّد – كما العشرات من أبناء جلدته- في شوارع دمشق، وعن ذلك يقول: "أُقسِمُ بالله العظيم أنَّنا عانينا الجوع الحقيقي في كلِّ دقيقة وثانية بعد بقائنا في المخيَّم، في بعض الأحيان لم نجد حتى العشب لنأكُلَهُ".
بقيَ الحال على ما هو عليه حتى مطلع العام 2014 إذ تمكَّنت بعض المنظمات الإنسانية بالتعاون مع "الأونروا" من كسر الحصار جزئيًّا عن اليرموك، لكنَّ ما قدَّمه هؤلاء لم يكن يكفي لتغطية حاجات سكان المخيَّم والوافدين إليه من السوريين، إذ كانوا يعانون من سوء التغذية وتدهور حالاتهم الصحية، وبقيت أرقام الشهداء تزداد نتيجةً لسوء التغذية، وانتشار الأمراض والأوبئة، وقد سُجِّلَت أكثرُ من 192 حالةَ وفاةٍ نتيجةً لهذه الظروف الصعبة.

دخول داعش والحصار الثاني لليرموك
ما زاد الطين بلّةً على سكان مخيَّم اليرموك كان الحدث المفاجئ الذي شَهِدَه المخيَّم في العام 2015 والذي تمثَّل بدخول التنظيم الإرهابي المعروف باسم الدولة الإسلامية "داعش" والسيطرة على المخيَّم في ليلة وضحاها، ممَّا ضاعف معاناة السكان، وأوقعهم ما بين مطرقة النظام وسندان داعش.
هذا الدخول المفاجئ إلى المخيَّم، ونتيجة للانتهاكات الصارخة بحق المدنيين العُزَّل من قِبَل "داعش"، دفعَ الآلاف من السوريين والفلسطينيين إلى الخروج إلى البلدات المجاورة، ليبقى عددُ المقيمين في المخيَّم لا يتجاوز ثلاثة آلاف نسمة بين فلسطيني وسوري.
ولم تنجح الوساطاتُ التي قام بها وجهاء المخيَّم لا بفك الحصار ولا بإخراج "داعش"، لكنَّ الخرق الوحيد الذي استطاعوا تسجيله كان إخراج بعض المحاصَرين من المخيَّم كخالد وعائلته. وعن ذلك يقول خالد: "بعدما دُمِّر المخيَّم وفقدتُ أحدَ إخوتي في القصف اقتنعَ أبي بالخروج، فخرجنا كما خرج العشرات من أهالي المخيَّم ليبقى الغرباء عن المخيَّم داخله".
ويتابع خالد: "لم نُفكِّر بالرحيل عن المخيَّم، لكنَّ الجوع والمرض والموت هو الذي دَفَعَنا لمغادرة المخيَّم، وأصعبُ ما واجهناهُ في الحصار كان حقيقة أنَّ التنظيمات الإرهابية التي دخلَت المخيَّم كان لديها ما يكفي من الطعام ليسدَّ حاجة مدينة بأكملها، لكنَّهم كانوا يرفضون إعطاءَنا حتى كسرة خُبز لنسدَّ بها جوعنا. وكانوا يُخيِّروننا، بين الجوع أو الانضمام لهم، ولكنَّنا رفضنا عَرضَهم".
وبعدَ نزوحِ خالد وعائلته من مخيَّم اليرموك في العام 2016 تصاعدت أعمالُ العنف بين أطراف المعارضة السورية، وتحديدًا بين داعش وجبهة فتح الشام المعروفة بِاسم "جبهة النصرة" الأمر الذي دفع النظام السوري إلى تضييق الخناق على المخيَّم ومَن تبقَّى من أهله، لتردّ "داعش" بفرض حصارٍ ثانٍ على المناطق الخاضعة لسيطرة النُّصرة، فارضًا حصارًا مزدوجًا على أهالي المخيَّم، مانعًا السُّكان من الدخول والخروج إلّا في ساعاتٍ محدّدةٍ، وفارضًا أقسى أنواع العقوبات على كلِّ مَن خالفَ تعاليمَهُ وتعليماتِهِ ليبقى الحال على ما هو عليه حتى بداية العام 2017.

تسوية النظام مع المسلَّحين
مع بداية العام 2017 لاحَت في الأُفُق بوادر حلول واتفاق بين النظام والمعارضة السورية تقضي بفكِّ الحصار عن المخيَّم، وعودة الأهالي إليه مقابل خروج مُسلَّحي النصرة إلى أدلب، و"داعش" إلى الشمال الشرقي في سوريا، من دون تحديد مهلةٍ زمنيّةٍ لتنفيذ الاتفاق بين الطرفَين. استبشر الأهالي خيرًا بهذا الاتفاق، وأحسَّ الجميع أنَّ العودة باتت قريبةً، لكن مُهَل خروج المسلحين بقيت تتمدَّد الواحدة تلو الأخرى حتى مُطلَع العام 2018.
هذا الاتفاق غير المعلَن رسميًّا سرعان ما تبخَّر في العام 2018، بعدما أنذرَ النظام السوري الجماعات المسلَّحة بضرورة الخروج من المخيَّم والاستسلام من دون قيد أو شرط، الأمر الذي دفع المعارضة السورية إلى توجيه ضربة استباقية على حواجز النظام، ليردَّ الأخير بمئات الغارات والقصف المدفعي العنيف. لتبدأ بعدها عملية التدمير الممنهَج للمخيَّم، ولبنيته التحتية، وقد سُجِّلَت أكثرُ من 700 غارة في 6 أيام.

نكبة اليرموك
بعد مضي سبعة أعوام على الأزمة السورية بدأت أحلام الفلسطينيين في العودة إلى المخيَّم تتلاشى، ليُسجِّل التاريخ الحديث نكبةً جديدةً للشعب الفلسطيني، عُرِفَت بِاسم "نكبة اليرموك" مخلِّفةً وراءها عشرات العائلات الفلسطينية كعائلة أحمد غنوم التي لا تزال تحاول لملمةَ جراحها، وبناء حياتها من جديد في مخيَّم شاتيلا الذي يفتقر في الأساس لأبسطِ مقوّمات الحياة.