خاص- مجلة "القدس" العدد 347 ايار 2018 غزّة | منال خميس


كأيِّ شابٍّ في أيِّ بقعةٍ من بقاع الأرض، يحلم بحياةٍ كالحياة، بلا احتلال ولا حواجز ولا حصار، خرج ضياء البُرعي من منزله ليلتحق بالمتظاهرين عند الحدود الشرقية لمدينة جباليا شمال شرق قطاع غزّة، دفاعًا عن كرامته، واحتجاجًا على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القاضي باعتبار مدينة القدس المحتلة عاصمةً لكيان الاحتلال الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها.
ولم يَكَد ضياء يصل إلى هناك حتى داهمت يدُ الغدر الإسرائيلية، المُدجَّجة بالرصاص المُتفجِّر الحي، ساقه اليُمنى، ليواصل حياته مُقعَدًا على كرسي مُتحرِّك، إلى أن يشاء الله.

ضياء البُرعي ذو الثمانية والعشرين عامًا، والذي كان يعمل في طلاء المنازل، ويهوى لعب كرة القدم، أبت قوات الاحتلال الصهيوني أن تُبقي له شيئًا بسيطًا من أحلامه، وهو أن يحيا كبقيّة البشر، وأن يُؤسّسَ بيتًا فيه زوجة، وتملأهُ ضحكات الأطفال، فهو كان قد أُصيب سابقًا جراء قصف إسرائيلي خلال عدوان الاحتلال عام 2012م على غزّة، ممَّا اضطَّرَه للخضوع لعملية زرع بلاتين في عموده الفقري، ومنعَهُ من الركض نحو حلمه الكبير بأن يصبح لاعب كرة قدم مُحترِف.

الإصابات حطَّمَت أحلامه ولكنّها لم تُفقِدهُ الأمل!
يحترقُ البرعي ألمًا كلَّما تذكّر ما حدثَ لساقه اليمني، حيث يقولُ في حديثٍ لمجلة "القدس": "أُدخلتُ المستشفى إثر إصابة ساقيَّ الاثنتين خلال مسيرات العودة، وبقيتُ لمدة أسبوع في المستشفى، الساق اليسرى لا تعاني أيّة مشكلة رغم وجود قصور بنسبة 1 سم في العظم، ولكن الساق اليمنى هي المشكلة فقد بُترَت 10 سم منها!".
ويُشار إلى أنَّ الرصاص المُتفجِّر المُحرَّم دوليًّا، والذي تستخدمه قوات الاحتلال الصهيوني منذ بدء التظاهرات على حدود قطاع غزّة ضدَّ الشبان الفلسطينيين، ينفجِر داخل جسد المصاب بعد استهدافه، ممَّا يسفر عن تفتُّت العظم في الجزء المستهدَف من الجسد.
ويتابع: "كنتُ أتمنَّى أن أعيش كبقية الشبّان، أتزوج وأُؤسِّس أسرةً، وأدخل عالم احتراف كرة القدم، لستُ نادمًا اليوم على مشاركتي في المسيرات، ولكنَّني أتمنّى أن أحصل على علاجٍ مناسبٍ يُساعدني على الوقوف والسير على قدَمَيَّ، فقد أخبرني الأطباء بأننَّي بحاجة إلى بلاتين حلزوني الشكل وهو غير متوفِّر في قطاع غزّة".
وأوضح أنَّه بعد تركيب البلاتين الحلزوني بعامين أو ثلاثة من المحتمل أن يستطيع الوقوف على ساقه اليُمنى مجدَّدًا، بينما بعد عام واحد سوف يكتمل نمو العظم في ساقه اليسرى وتعود إلى حالتها الطبيعيّة، بحسب ما أخبره الأطباء.
ويأملُ ضياء أن يتمكَّن بعد أعوام من التعافي، وأن تعود ساقه قادرةً على إسناده ليبحث عن مهنةٍ يوفِّر بها قوت يومه، إذ يقول: "كُلّي أملٌ بأن أتمكن من الوقوف على قدمَيَّ فقط لأجد مهنةً جديدةً ليست بحاجة لكثير من الحركة لأُعيل نفسي، ولئلا أكون عالةً على المجتمع. أتمنّى أن أتزوج وأنا واقف على قدمَيَّ كسائر الشباب، كما أتمنّى أن أؤسس بيتًا يحتويني، فليس من شعور أصعب من الشعور بالعجز، تشعر وكأنّك جسدٌ خالٍ لا روح فيه ولا حياة".
من الجدير بالذكر أنَّ جمعة الكاوتشوك التي أُصيبَ خلاها ضياء، شهدت استشهاد عشرة شُبّان، وإصابة 1070 فلسطينيًّا عند حدود قطاع غزّة، جلُّهم بالرصاص المتفجّر، ممَّا أقعد كثيرين منهم عن الحركة، بفعل تعمّد الاحتلال استهداف الأجزاء السفلية من الجسد، رغم سلمية التظاهرات.

الإهمال وضعف الإمكانيات الطبية أدَّيا لتفاقم إصابة ضياء
يروي ضياء البرعي لـ"القدس" واقعة إصابته الأخيرة مُوضحًا أنَّ الإهمال وضعف الإمكانيات الطبيّة المتوفّرة هو ما أدّى لتفاقمها، فيقول: "بمجرد وصولي إلى المستشفى ثبَّتوا ساقيَّ لوقف النزيف فقط، وبعد 20 يومًا حلَّ دوري ليُجري الأطباء العملية الجراحية اللازمة لساقي، ولكن كانت الالتهابات في الساق اليمنى قد نهشت عظمي، ممَّا اضطّرهم لقطع 10 سم من العظم".
ويُحمِّل البُرعي المستشفى والأطباء فيه مسؤولية التلف الكبير الذي حلَّ بساقه اليمنى، موضحًا: "الالتهاب الشديد الذي أدَّى إلى قطع هذا الجزء الكبير من عظم ساقي نتج عن عدم إتمام عملية التنظيف بشكل جيّد وفي الوقت المناسب، فإصابتي لم تكن تستدعي قَطْعَ هذا الجزء الكبير من العظم، وإنَّما كان الفرق سيكون نحو 2 سم فقط بين الساقَين لو سارت الأمور بالشكل الصحيح".
ويشرح البرعي لـ"القدس": "عندما أصبتُ كان المستشفى في حالة طوارئ، فقاموا بتركيب البلاتين في ساقي، وبقي العظم ظاهرًا وبارزًا، ما أدَّى لوصول الالتهاب إلى العظم بسهولة، وبعد عشرين يومًا من الإصابة بتروا العظم الذي استفحل فيه الالتهاب".
ويشتكي البرعي من عدم توفُّر الطبابة اللازمة في المستشفيات موضحًا أنَّه "لا توجَد في المستشفى سوى ضمادات ومُسكِّنات، المضادات الحيوية مثلًا عليك أن تشتريها من خارج المستشفى وتدفع ثمنها، وأنا اشتريتُ لاصقات مضاد حيوي بحسب تعليمات الأطباء بثمن 200 دولار على نفقتي الشخصية، فكل شيء هنا على نفقتك الخاصة، والمستشفى لا يُقدِّم لك سوى الرعاية والعمليات والـمُسكِّنات".
ويتساءل: "أليس من حقّنا كجرحى دافعوا عن الوطن وبذلوا أرواحهم رخيصةً في سبيله أن تُوفَّر لنا الرعاية الطبية اللازمة؟! حتى سيارة الإسعاف نضطّر لدفع خمسين شيقلًا لها لتوصلنا إلى المنزل أو تعيدنا إلى المستشفى!".
وكان ضياء قد أُصيبَ في كانون الأول الماضي بعيار ناري في ساقه اليمنى، وما زال ينتظر موعد عملية جراحية لإزالة بعض الشظايا منها، وفي هذا السياق يقول: "ألم الإصابة الجديدة أنساني الإصابة الأولى ولم أعد أشعر بها، فالرصاص المتفجّر الذي استخدمَهُ قناصة الاحتلال هذه المرة يُسبِّب آلامًا شديدةً لا يمكن وصفُها أبداً".
ويكمل: "هذه المرّة الرصاصة الأولى دخلت ساقي اليمنى من الخلف وانفجرت في الركبة، ركضتُ بعدها نحو مترين لأُصاب بالرصاصة الثانية في الساق اليسرى التي دخلت من الخلف وانفجرت تحت الركبة. لم أشعر بالرصاصة لحظة إصابتي بها، وإنَّما كانت كوخزة دبوس فقط، ولم أشعر بأن لي ساقًا أصلًا لحظة إصابتي، وإنما ركضتُ قبل أن تُصاب ساقي الأخرى، ثُمَّ وجدتُ الجماهير تجري بي نحو سيارات الإسعاف وأنا لا أدري ما جرى لي، وأدركتُ فيما بعد أن ساقيَّ أُصيبتَا، وفقدتُ الوعي نتيجة غزارة الدماء التي نزفتُها".
ويؤكِّد ضياء أنَّ عناصر الأمن المسؤولين عن تنظيم التظاهرات لم يمنعوا المتظاهرين من تجاوز الحد المسموح به "700 متر قبل الشريط الحدودي"، قائلًا: "لم يمنعنا أحدٌ من تجاوز المسافة المسموح بها، بل إنَّ عناصر الأمن كانوا يُشجّعوننا ويقولون لنا تقدّموا وأشعلوا الكاوتشوك في أعمق نقطة تصلون إليها".
وبلغت نسبة المصابين الذين يصلون إلى مستشفيات قطاع غزّة المختلفة جَرّاء إصابتهم بالرصاص المتفجر 95% من إجمالي عدد الإصابات، وخاصّةً في أيام الجُمَع من كلِّ أسبوع، وهي الأيام المُخصّصة للنفير العام على خطوط التماس مع قوات الاحتلال.
وتُجدر الإشارة إلى أنَّه على خلفية الوعد المشؤوم للرئيس ترامب بحقِّ القدس، انفجر أبناء الشعب الفلسطيني في أنحاء الوطن كافّةً، بانتفاضة عارمة زادت حِدَّتُها بعد إعلان حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" يومَ غضبٍ في وجه الاحتلال ردًّا على زيارة نائب ترامب للأراضي المحتلة، ليستمرَّ النفير في وجه المحتل حتى إشعارٍ آخر.
حال البرعي ليس حاله وحَده، فعشرات الشُّبّان في قطاع غزّة المحاصَر باتوا أسرى لإعاقاتٍ حركية سبَّبتها لهم آلة البطش الصهيوني، لتُقعِدَهم عن أحلامهم ومستقبلهم الزاهر الذي طالما تمنوه لأنفسهم، ولتجعلهم يحلمون ولو بنصف حياةٍ، كالحياة.