خاص مجلة "القدس" العدد 346 نيسان 2018
تقرير: فاطمة مجذوب

معاناةٌ تكبر وتزداد كلَّ يوم في قاعِ روحِها، فهي محرومة من رؤية واحتضان أغلى ما لديها، تُحادث أبناءها خلف القضبان وأحيانًا كثيرة تُمنَع من رؤيتهم، تتعرّض إلى أقسى أنواع الذلّ والتعنيف النفسيّ والجسديّ، لا يستطيع أحدٌ أن يحلّ مكانها أو يملأ الفراغ الذي تركته في منزلِها، وكل يوم ومع كل مناسبة تزداد جروحها وتذرف دموعها شوقًا لِرؤية من انجبتهم روحها وكأنَّ هذا العذاب فُرِضَ عليها كاستئصال عضو من جسدها بدون مخدر، إنَّها "الأسيرة الأم"، التي حملت الوجع الأكبر من أوجاع هذه الحياة لكنَّها كانت بالفلسطيني "على قد الحمل"، هُجِّرَت وشُرِّدت تارةً، حاربت وساندت الرجل في مقارعة العدو الصهيونيّ وأُسِرَت تارةً أُخرى، هي الأمّ الأسيرة التي تتعرّض هي وباقي الأسيرات إلى أقسى أنواع التعذيب والتنكيل من قِبَل العدو، هذا عدا عن الحرمان من أدنى متطلبات الحياة الإنسانيّة.


إنّ مأساة الأسيرة الاكثر ألـمًا مقارنة بِغيرها من الأسيرات، فهناك من اعتُقِلَت أمام أُعين اطفالها، وهناك من اُعتُقِلت مع زوجها، وهناك أيضًا من اعتُقِلَت مع طفلها، والوجع الأكبر عن تلك الأسيرة التي اعتُقِلَت وهي حامل وتعرّضت للتعذيب والتهديد بإجهاضها أثناء التحقيق معها.
إسراء الجعابيص في الثلاثينات من عمرها هي أسيرة لديها طفل، لا يوجد مبرّرٌ منطقيٌّ لاعتقالها، ولكن كما اعتدنا فإنّ عدوّنا الصهيونيّ دائمًا يُبدِع في اختراع التهم. تنحدر الجعابيص من قرية جبل المكبر جنوبي القدس المحتلة، حُكم عليها بالأسر لمدة 11 عامًا بتهمة محاولة قتل شرطي صهيونيّ، وذلك بعد أن انفجرت بِحادثٍ عرضيٍّ أسطوانة غاز كانت تقلها بسيارتها على بعد خمسمئة متر من حاجز عسكري، بينما كانت عائدةً من مدينة أريحا إلى مدينة القدس. في لحظتها تلاشت أصابع إسراء بفعل حروق التهمت 50% من جسدها، فقد تركتها قوات الاحتلال تحترق بدون مساعدتها. وبعد احتراقها نُقلت إسراء إلى مشفى "هداسا عين كارم" الإسرائيلي، ومن ثمّ إلى المعتقل من دون استكمال علاجها، رغم حاجتها المُلحة إلى العديد من العمليات لكي تستطيع استكمال جزء من حياتها بشكل طبيعي، كل هذا العذاب يهون أمام طفلها الوحيد الذي لم يعرفها بعد زيارته الأولى لها بسبب الحروق الشديدة على وجهها.
وتُعاني الجعابيص اليوم أشدّ أنواع العذاب داخل معتقلات الاحتلال، فلم يكتفِ العدو بحرق جسدها وإنمّا أكمل على روحها وقلبها من خلال حرمانها من رؤية ابنها، وذلك بحجة عدم إعطائه رقم هوية مقدسية من قِبَل سلطات الاحتلال تسمح له بالعيش في المدينة.
عبلة العدم في الأربعينات من عمرها، أمٌ لِتسعةِ أبناء، من مدينة الخليل جنوب مدينة القدس المحتلة، ذهبت إلى السوق لتشتري بعض اللوازم المنزليّة وفي طريق عودتها، قام جندي صهيوني من على برج المراقبة بإطلاق النار تجاهها، ممَّا أدَّى لإصابتها برصاصة في عينها اليمنى فقدت على إثرها عينها، ورصاصة أخرى برأسها اخترقت الجمجمة من الجهة اليمنى، ممّا أدّى إلى فقدان الجزء الأيمن من جمجمتها، ولم يكتفِ جنود الاحتلال بذلك بل انهالوا بأسلحتهم بالضرب على رأسها ووجهها، ممَّا أدَّى لكسور قوية في فكها العلوي والسفلي، وكسور في الأنف فقدت بعدها حاسة الشم، وإصابة بالغة في الأُذن وخلع في الكتف الأيسر جعلها عاجزة عن استخدام يدها اليسرى، ولتغطية العدو الصهيوني على جرائمه لفَّق لها تهمة محاولة تنفيذ عملية طعن وحُكِمَ على العدم بالسجن 3 سنوات، وهي اليوم تقبعُ في معتقل هشارون وتتعرّض للإغماء المتكرِّر نتيجة إصابتها.
أمّا الأسيرة المحررة منال غانم فأنجبت ابنها "نور" داخل معتقل الاحتلال، أطلقت عليه اسم نور لكي يُضيء وجوده عتمة الزنازين. فرغم أنّ الانجاب أمرٌ رائعٌ بالنسبة للأم العادية، إلا أنّه بالنسبة للأسيرة الأم في معتقلات الاحتلال يُعدُّ حالةً استثنائيةً حيثُ تتم عملية الولادة على يد طبيب أو قابلة لا يمكن الوثوق بهما، فهؤلاء مجرمون يعملون ضمن فريق يمارسون التعذيب ويعطون تشخيصات طبية مفادها إمكانية استمرار اعتقال الاسيرة وابنها في ظل زنزانة لا تتوفر فيها 1% من الشروط الصحية.
منال ليست الحامل الأولى التي أنجبت وتابعت أشهر حملها داخل المعتقلات، ولكنها كغيرها من الأسيرات اللواتي واجهن ظروفًا صعبةً طوال فترة الحمل من حرمان الغذاء إلى تكبيل الأيدي والارجل بالقيود المعدنية والتحقيق وصولًا إلى الحبس الانفرادي.
إذًا القائمة تطول وتطول، أسيراتٌ أرّقن مضاجع العدو، هنَّ شقائق الرجال في الكفاح والنضال، ورغم أنّ سلطات الاحتلال تحرم الأسيرات من زيارة عائلاتهن لهن، وتضيّق الخناق على الحوامل ومن لديها طفل رضيع، وتحرمهنّ من احتضان أبنائهن، والتواصل معهم، لكنّ الاسيرات أثبتن مدى صبرهنّ وقوتهنّ في مواجهة هذا العذاب.