بقلم: محمد سرور
خاص مجلة "القدس" العدد 329 اب 2016

تشكل تركيا عصب السياسة الإقليمية حاليًا دون منازع. وبقوة يبدو دورها انطلاقا من موقعها الوسطي الأورو- متوسطي حلقة الربط بين قضايا المنطقة مجتمعة، بما فيها القضية الفلسطينية.
إشكالية هويتها، رغم أهمية الموقع جعلها حائرة- مرتبكة وقلقة في آن واحد.
الأوروبيون حسموا امرهم باستحالة دخول تركيا في الإتحاد، واقتنعت تركيا بدورها بأن لا مكان لها فيه. لذلك بات اللعب الأوروبي- التركي على المكشوف، حيث التكتيكات والمناورات المتبادلة باتت معروفة، بحيث تتضمن مطالب الطريفين دون مواربة.
الواضح بالنسبة للقضية السورية تحديدًا ومعها جزئيًا القضية العراقية، باتت تشكل بدورها دينامو الحراك التركي. ففي السياسة توضع الخطط وتدور وفق خارطة حسابات الربح والخسارة. تركيا دخلت معمعة لم تحسب كلفتها، من خلال فرضية حسم الصراع في سوريا سريعا وبمعدل وبواقع كلفة من غير جيبها الإقتصادي والأمني. لكن حساب الحقل لم لم يطابق حساب البيدر. فخسائرها لا تقل إطلاقًا عن خسائر الدول المعنية بالحرب مباشرة... خلل كبير بالمعادلة الأمنية، إنسحار كبير لعدد السياح الذين يشكلون أهمية كبيرة ضمن الموازنة العامة، وبالطبع يلازمها حجم التبادل التجاري مع دول الجوار- روسيا التي يتجاوز حجم تبادلها التجاري مع تركيا ال 90 مليارًا سنويا... وكذلك إيران.
لم تعد الحرب حكرًا على المكان الذي بدأت فيه، فحدودها الجنوبية كلها ميدان حرب ومشاريع دول لا تحتمل التخمين والتردد. في الداخل عمليات إرهابية تهدد البشر وتقتل الحياة- بدءًا من الإستثمارات إلى السياحة ووصولا إلى إظهار تركيا دولة غير آمنة مما يضعها في مازق الضعف السياسي في مجال سجالها وتأثيرها الدوليين. ولا ننسى إضافة إلى كل ما ذكر نتائج محاولة الإنقلاب الفاشلة على قوتها وتماسكها الداخلي، الذي يتجاوز كثيرًا ما تحاول الآلة الإعلامية ترويجه وتبسيطه وتجاوزه.
فعلى الرغم من دخول عودة العلاقات الدافئة مع إسرائيل بعد تصويت البرلمان التركي على بنود الإتفاق الثنائي بين البلدين، إلا أن مجرد انتقاد تركيا للسياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، قامت الدنيا ولم تقعد في إسرائيل، وأقل ملاحظة وجهت إلى تركيا أفادت باهتمام الأخيرة بوضعها واستقرارها بدل تبني "سياسة الأستذة" على إسرائيل.
بالنسبة إلى كل من روسيا وإيران يبدو أنها اعتمدت سياسة التهدئة والتطبيع وتجاوز السياسة التي كانت معمتدة زمن احمد داود أوغلو. ولكن علينا الإنتباه أن سياسة التبريد والتطبيع اللتين اعتمدتا تركيا لا تعني أبدًا تغير إستراتيجي في تجاه القضية التي تربطهما بها علاقة مباشرة- سوريا مثلا.
هي بالمعنى الدقيق استدارة حول الذات، أي انها فتحت جبهة العداء لداعش، كضحية متفق عليها من قبل المجتمع الدولي، والإشارة لهذا الأمر بدأت منذ لحظة حصول العملية الانتحارية في غازي عنتاب والتي حصدت حوالي مئتين بين قتيل وجريح. تلا ذلك حشد ما تسميه "الجيش الحر" نحو مدينة جرابلس وثم تحريرها بمساعدة لوجستية مباشرة من قواتها العسكرية. مع أن ما أطلقت عليه صفة "الجيش الحر" لم يكن إلا جماعاتها التابعة لأجهزتها من تركمان وأخوان مسلمين سوريين وغيرهم، وبذلك تكون تركيا حققت عددًا من الأهداف العسكرية- الامنية بضربة واحدة. وقبل أن نتحدث عن إنجازات سياستها في العملية العسكرية، بدا واضحًا أن ثمة فبركة ميدانية تمت بين الجيش التركي وداعش التي أخلت المدينة نحو الرقة ومدينة الباب السوريتين دون أية مواجهات على الاطلاق. في حين قبل عملية غازي عنتاب الإنتحارية كانت قوات داعش تستعمل المدينة كممر للمتطوعين وتسوّق الحاجات الغذائية وتسلم الإمدادات، أي أن المدينة بحسب المراقبين كانت أشبه بمركز للنقاهة بعيداً عن التهديد بالاستهداف العسكري.
كانت قوات سوريا الديموقراطية- المدعومة أميركيا وأوروبيا تقترب من تحقيق ربط المدن الكردية بعضها ببعض في المناطق الواقعة على الحدود بين تركيا وسوريا، مما يؤدي ببساطة إلى قيام كيان كردي مترابط ومتصل مع الكيان شبه المنفصل في شمالي العراق. حسب اعتقادنا المسألة الكردية هي التي أملت على القيادة التركية القيام بالإستدارة- غير المكتملة وبالتالي توسيع دائرة علاقاتها الإقليمية والدولية، مع هامش واسع من المرونة الخطابية- التكتيكية. دخول القوات التركية مدينة جرابلس بمعية "الجيش الحر" أفقل على مسألة ربط المناطق الكردية، خاصة أن القوات التركية تقوم بقصف قوات سوريا الديموقراطية- ذات الغالبية الكردية- مما فرض عليه العودة إلى ما وراء نهر الفرات- من جهة الشرق.
إستعمال تركيا للميليشيات الإسلامية التابعة لها تحت مسمى "الجيش الحر" محاولة ذكية لشرعنة تلك الميليشيات وبالتالي حصولها على موقع الشريك في معادلة التسوية السورية التي سوف تحصل عاجلا أم آجلا.
يبدو أن الحكومة التركية التقطت أنفاسها واقتربت من مرحلة التوازن، بحيث اتفقت مع كل من روسيا وإيران على ضرورة محاربة الارهاب وتطبيع العلاقات الثنائية معهما لأنهما الدولتان اللتان وقفتا إلى جانب الحكومة الشرعية غداة إعلان الانقلاب الفاشل، وبذات الوقت لم تتخل عن الميليشيات التي تدعمها في سوريا، فعادلت حساب التبريد الاقليمي وانخرطت ولو تكتيكيا في مجال محاربة الارهاب خاصة بالجانب الذي يمس المعادلة الكيانية التركية- اي محاربة قوات سوريا الديموقراطية التي لم يكف قادتها عن نيتهم إعلان الفيدرالية في الجزء الذي يحتلونه شمالي سوريا، وبدأت مرحلة الضغط على أوروبا بتحمل المزيد من المسؤولية تجاه اللاجئين. هذه الورقة- بعد حالة الرعب التي عاشتها اوروبا في كل من ألمانيا وبلجيكا وفرنسا، باتت تشكل هاجسًا قويا لدى الساسة الأوروبيين وبخاصة بعد اتضاح اهمية الدور التركي في المسألة، حيث سهّلت إليهم الطريق نحو اوروبا، لتركيا مطالب هامة تحاول دعم تحققها بمزيد من التهويل. فتركيا مقابل تشددها واستقبالها اللاجئين تريد من الإتحاد الأوروبي فتح أبواب الهجرة والعمل للعمال الأتراك في بلدانه، وهو ما يشكل عامل ضغط كبير وتضييق على اليد العاملة الأوروبية.
لم يقابل الاستدارة التركية استدارة عربية باي شكل كان. فرعاية الحروب الداخلية لم تزل عربية بامتياز، وإهدار المال العربي ومعه تفتيت البنية المجتمعية والتحتية وتدمير الدولة لم يزل يجري دون ضوابط او حسابات تخضع للسؤال: إلى أين؟
من خلال الحروب الاستباقية التي أدارتها الولايات المتحدة الاميركية، والاعتداءات الصهيونية على الشعب الفلسطيني هدف الاثنان إلى "كي وعي" كل من لا يخضع لسياستهما. كي الوعي هو عملية إيصال "العدو"- اي نحن، إلى مرحلة الاقرار باستحالة تحقق ما نريد والاقرار بقوة الخصم وضرورة الاعتراف بيسادته على القضية التي نتصارع وإياه حولها. أي أنه وفق المنطق الأميركي- الاسرائيلي يجب أن نقر بمعادلة حساب الربح والخسارة حين نتواجه واي منهما. وهنا لا بد من الاشارة إلى وصول الوضع داخل سوريا إلى الحالة العبثية التي لا مجال فيها للحسم، مما يعني أن استمرار حالة الاقتتال الداخلي هو استمرار لحالة النزف المجاني وإهدار الإمكانات دونما أي مراجعة أو قراءة عميقة لحال الصراع الدائر منذ اكثر من اربع سنوات. حتى أن هذه المعادلة يجب أن تخضع ايضا لاعادة قراءة عربية عميقة وجدية للعلاقات الاقليمية، فعلى الاقل أخذ درس من تركيا وحالها قبل وبعد التطبيع مع جيرانها... وبدل ان تصل علاقات المملكة العربية السعودية مع تركيا إلى حال الفتور بسبب عملية "النفض" التي أجرتها تركيا لعلاقاتها، كان الاجدر بالمملكة ومن خلفها العرب جميعا أخذ العبرة وتلقفها ومن ثم فتح ثغرة في جدار الصراع المقفل حتى الآن وإلزام المتصارعين في سوريا على الجلوس معا- بمفاوضات ماراتونية تستمر إلى أن يخرجوا متفقين على القضايا التي يختلفون حولها...
نقول ذلك لأن فلسطين بخطر حقيقي. والوقوف معها يتطلب فتح القلوب والعقول على محبتها والحرص على حرية شعبها واستقلاله، وذلك لن يتم إلا بتجفيف صراعاتنا واحقادنا وتوجيه الجهود كلها صوب أم القضايا- فلسطين. الآخرون يستديرون وفق مصالح يخدمونها، فأي المصالح يخدم العرب... وماذا يفعلون؟ ألا يستديرون كغيرهم... وما المانع؟
كفى حروبا عبثية... ولنعد إلى فلسطين- عودة الإبن الضال.