بقلم:
خالد أبو عدنان

الديموقراطية بحاجة إلى مجتمع واعٍ لمفهوم الديموقراطية، وأهمية الأحزاب السياسية في قيادة المجتمع نحو الرقي الحضاري. وإن كانت الانتخابات استحقاقاً لجميع المواطنيين كما يكفله الدستور، إلاّ أن المواطنة الصعبة تلك التي تطالب بكل الحقوق لكنها لا تلتزم بأي واجب اتجاه الوطن سوى دفع الضرائب، فيما تتهم السياسيين وكل من ينتمي لحزب سياسي بأنهم فاسدون وعندما يحين وقت الانتخابات يتجهون إلى مصالحهم الخاصة، وهذه المواطنة الصعبة تشكل 20% من البريطانيين إلا أنها تصل إلى أكثر من 50% في الهند أكبر ديموقراطيات العالم من ناحية العدد الكمي، والكثير من الدراسات تؤكد أن الوضع في الدول العربية مماثل لما هو موجود بالهند.
إذن نصف المجتمع يبحث عن مصلحته الخاصة بمعنى أنه قد يصوّت لحزب ديني ثم لحزب يساري ثم ليبرالي وما يحدد صوته هي البوصلة الإرشادية للقضايا التي تخصه شخصياً، في فكرة العولمة المتغلغلة في واقعنا المُعاش، بسبب ظروف كبت الحريات التي مررنا بها في فترة الحرب الباردة ثم سكب الحريات بشكل إعصار عشوائي بالفترة الحالية، فالديموقراطية بحاجة لتراكم خبرات وفهم حقيقي للواقع السياسي والاختلاف في أطروحات الأحزاب السياسية. ولشرح مفهوم الكبت السياسي لا بد أن نعرف أن أي استبداد سياسي يمنع عمل الأحزاب السياسي، مما يؤدي لتفعيل مرجعيات أخرى تلعب دور الحزب السياسي، وهي المرجعيات العائلية والدينية بالمجمل إلاّ أنها تتشكل من عملية الدمج المصلحي بينهما وأيضاً الصراع بينهما لتقديم الولاء للاستبداد السياسي، وهذا بدوره يفقدهما الأهلية المجتمعية لأنهما جزء من الاستبداد السياسي، مما يسمح لتشكُل حركات إصلاحية تعمل بشكل سرّي لقلب النظام الاستبدادي ورموز المرجعيات العائلية والدينية الموالية له، ولا بد من التمييز بين الحركات الإصلاحية والأحزاب السياسية، خصوصاً أن أكبر تنظيمين سياسيين في فلسطين هما حركتي فتح وحماس.
فالحزب السياسي يؤمن بفكر سياسي لإدارة الدولة أي أن تطبيق فكره يتطلب المكونات الثلاث: الشعب والأرض والسلطة، بينما الحركة السياسية فهي عبارة عن مجموعة أفكار لتغيير واقع المجتمع ولا تتطلب أي مكوّن سوى الشعب، أما الحركة الفكرية فهي تعمل ضمن نطاق تعديل أفكار المجتمع وهي كالأحزاب السياسية تتطلب المكونات الثلاث، وأما الحركات الدينية لا تتطلب أي مكون سوى الشعب فهي تعمل ضمن نطاق الدعوة لإصلاح المجتمع أي الدائرة الأكثر صلاحا في المجتمع ثم تبدأ بالتمدد بالمجتمع بشكل سرطاني عشوائي وهي ليست بحاجة لمقومات الحزب السياسي لإنها تطرح فكرة الطائفة الناجية المنغلقة اجتماعياً، وأما الحركة الثورية لا تتطلب أي مكون سوى الشعب، فهي احتشاد شعبي يسعى لتغيير الواقع السياسي دون النظر لشكل الدولة بعد تغيير الواقع الفاسد، مما يساعد على تشكيل تحالف جماهيري واسع يؤمن بهدف واحد أما القضايا الخلافية فهي مؤجلة إلى ما بعد مرحلة التحرير. فالحركة الثورية تحل نفسها وتتفتت لأحزاب سياسية متضاربة بعد تحقيق أهدافها الثورية كما حدث بالثورة الفرنسية. وأي حركة إصلاحية ثورية أو دينية أو فكرية إن لم تحقق أهدافها خلال فترة عشرين عاماً سيحدث داخلها انشقاقات تنفصل عن الجسم الأساسي للحركة، أما الجسم الأساسي فسوف يُشكّل متجهات فكرية متنوعة تُسمى إصطلاحا أجيال الحركة في الفكر السياسي (في الفكر القومي العربي يُقال رعيل وهي غير معتمدة أكاديمياً)، لكنها تُسمى بالمدارس التطبيقية للحركة ضمن الفكر الثوري، أي أن هذه المدارس تتعايش معاً وتثري عمل الحركة وترفع مستوى الفعإلىة داخلها. وسوف نحاول جاهدين شرح المدارس التطبيقية لحركتي فتح وحماس.
تتكون جماعة الإخوان المسلمين من خمس مدارس هي مدرسة الشيوخ: وهم المؤسسون ويشكلون المرجعية التنظيمية والفكرية التي وضعها حسن البنا، والتي تشتمل على ضرورة الاندماج مع المجتمع والمشاركة بالانتخابات والعمل الجاد لاستقطاب المجتمع نحو فكرة الأمة الإسلامية دون استخدام العنف ضد الحكومة أو المجتمع، وهي التي تعتبر أن العمل العسكري ضد الاحتلال بحاجة لخلق توازن استراتيجي، لأن تجربة المشاركة العسكرية بحرب النكبة تحت وصاية الجيش المصري الملكي أدت إلى أن المخابرات المصرية حبست أربعة آلاف إخواني عادوا من الجبهة بتهمة الانتماء لتنظيم عسكري إرهابي.
أما مدرسة البراغماتيين: فهم الذين يرفعون شعار نحن وُعّاظ لا حُكّام منهجهم يتبع حسن الهضيبي وهم دعاة المصالحة مع الحكومة والتوفيق بين عمل التنظيم الدعوي الاجتماعي وبين المساحة السياسية المتاحة من قبل الحكومة للإخوان وهؤلاء ضد أي عمل عسكري أو حتى التدريب على حمل السلاح فهو مرفوض بالمطلق عندهم قبل تكوين الدولة الإسلامية بطريقة السحب التدريجي الواعي للمجتمع.
 أمّا مدرسة التقليدين الجدد يرفعون شعار سيد قطب: جاهلية المجتمع دون تكفيره بل ضرورة توعيته ودعوته للانضمام لفكر الطائفة الناجية وهم دُعاة الانغلاق الاجتماعي ومحاولة خلق دولة داخل دولة عن طريق إنشاء مؤسسات بديلة للدولة في المجالات الأساسية خاصة التعليم والصحة والمحاماة على أن تكون إدارتها وموظفيها من أبناء وبنات تنظيمهم. وهناك أيضاً المدرسة السلفية الوهابية: وهي فكر عبد الله عزام والعديد ممن لجأ إلى المملكة العربية السعودية هروباً من ملاحقة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر،  وهي التي تدعو للعنف الاجتماعي وترفض التعددية السياسية، وهم أكثر فئة قابلة للانشقاق وتشكيل تنظيمات متشددة يكون تكفير المجتمع محور عملها، والحقيقة أن غالبية القيادات والمفكرين للتنظيمات المتشددة في الوطن العربي هم فلسطينيون تم فصلهم من تنظيم الإخوان المسلمين بسبب انحرافهم الفكري ( لمزيد من التفصيل أقرأ السلفي اليتيم لحازم أمين). وأما أحدث المدارس فهي مدرسة الإصلاحيين الجدد: وهم دعاة تشكيل حزب سياسي جامع للمجتمع تكون ركيزته الأساسية تنظيم الإخوان المسلمين مع فتح باب العضوية لكل فئات المجتمع بما فيهم المسيحيين، وغالبية أصحاب هذا الفكر هم من المثقفين الجامعيين المؤمنين بضرورة الوحدة المجتمعة للدولة، خاصة أن التراث الإسلامي يؤكد على ضرورة احتواء كافة المكونات المجتمعية. وهذه المدارس تتفاعل بشكل عنيف داخل الاجتماعات التنظيمية إلا أن الجميع يلتزم بقرار الجماعة بالعلن.
ومن المهم جداً دراسة الهيكل التنظيمي للإخوان المسلمين، فهو مركزي صاعد لأعلى، هرمه مكتب الإرشاد ثم مجلس الشورى وتحت المجلس هناك خريطة عنكبوتية لمثلث الأجهزة والنقابات والمكاتب الإدارية العليا للمناطق، حيث أن كل ابن تنظيم لا بد أن يكون منتمياً لجهاز ونقابة ومكتب إداري مناطقي مثلا: ينتمي لجهاز الإعلام وعضو بنقابة الصحفيين وعضو مكتب النصيرات. أما الانتخابات فهي مركزية نخبوية ولها قاعدة شرعية هو عدم جواز طلب الولاية أي عدم الترشح بل أن الكل مرشح والكل منتخب عن طريق المبايعة، أي أن الأطر العليا تقرر وعلى الأطر القاعدية الولاء والطاعة، ولا يوجد حقوق انتخاب للقواعد التنظيمية سوى حقهم باستبيان غير ملزم لمسؤولهم التنظيمي وأعضاء إطارهم، وقد تكون مشاورتهم بهذا الموضوع تدخل في باب الرقابة التنظيمية وتطبيق النقد والنقد الذاتي أكثر من أن تكون جزءاً من تعديل الهيكلية التنظيمية. كما أن فكرة الانتخابات غير محددة بمدة زمنية بل أنها مفتوحة يحددها مجلس الشورى ولا تتم إلا بإجماع مجلس الإرشاد.
إذن فالمركزية في تنظيم الإخوان المسلمين تستند لمرجعية دينية أساسها أن الأكثر علماً هو الأجدر باتخاذ القرار، فهو الراعي والباقي رعية، وقد تكون القيادة عندهم جماعية وقرار مجلس الإرشاد قرار جماعي، وهذا يتماشى مع مفهوم حركة دينية تؤمن بالتعددية الفكرية بما يخص القضايا البشرية أما القضايا التي بها حكم شرعي فهي إلهية ملزمة للجميع، وهنا لا بد أن نقارنها بحركات دينية أخرى حتى نفهمها بشكل أوضح.
فجمال الدين الأفغاني كتب بالقرن التاسع عشر: أن شكل الحكم في الدولة الإسلامية يكون على أساس عدم تعارض الإسلام مع الحداثة، فالديموقراطية هي الشورى والبرلمان هو أهل الحل والعقد والانتخابات هي البيعة، والحاكم شخص زماني (أي ان مدة حكمه ليست أزلية) وبالتالي سلطته زمانية وهذا يعني أن للناس حق اختياره (مبايعته) وحق خلعه ومحاسبته. وهي أعلى تطور حداثي بالإسلام السياسي الحديث فهي مقاربة لحد ما للمفهوم العلماني وحكم الشعب وفقاً للأسس الديموقراطية على قاعدة دستور موضوع من الشعب. أما الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية: فقد شرح الحاكمية بالإسلام على أساس تسوية بالمناصفة بين ما هو إلهي ملزم له نصوص شرعية وبين ما هو بشري بحت يتغير بتغير البشر والزمان والمكان ضمن مفهوم حكم العقل والنقل، وهذه هي القاعدة العامة في فكر سيد قطب. لكن هناك من الإخوان المسلمين من يعطي التشريع ثلث الأحكام الإلهية ويترك للناس ثلثي الأحكام العقلية المتغيرة مثل يوسف القرضاوي.
وإذا نظرنا لفكر آية الله علي خامنئي في كتاب الحاكمية في الإسلام فقد كتب: من الجهات المسؤولة اتجاه الانتخابات هم أبناء الشعب، ومسؤوليتهم الأساسية تتمثل في المشاركة في الانتخابات، وهذا ليس تكليفاً مفروضاً على الانسان كبقية التكاليف والالتزامات المختلفة الملقاة على عاتق الناس، بل هو تكليف عقلي من أجل صيانة المصالح. لكن الموافقة على المرشحين وبرامج عملهم وقرارات البرلمان والحكومة وحتى مجالس الحكم المحلي "البلديات" فهي اختصاص الجهات الحامية للشريعة التي ترشد العوام في القضايا العقلية والنقلية حتى توافق ما هو إلهي ومرجعي. أما قضية الانتخابات نفسها فهي فرض إلهي ملزم في ظل الحكومة الإسلامية، أما في ظل النظم الأخرى فهي من الأمور المتروكة للبشر رغم أنه من الأفضل لهم الانتقال والعيش في ظل الحكومة الإسلامية إن وجدت في مكان آخر، والسعي لتوسيع دائرة حكمها لتشمل كل بلاد المسلمين. وفي موضوع المجاهرة في رفض خوض الانتخابات فهو جريمة تفترض التعزير والتوبيخ أما إذا كان هناك مجاهرة بتحريض الناس بعدم المشاركة بالانتخابات فهي جريمة كبرى تدخل في باب الفتن التي قد تصل عقوبتها إلى القتل لحماية المجتمع ومشروع النظام الإسلامي. والجدير بالذكر أن الخامنئي هو من ترجم أعمال سيد قطب للفارسية ويعتبر شروحاته للحاكمية في الإسلام من القواعد المؤسسة لفكر النظام الإسلامي لحكم الشعوب.
 ومن ناحية مغايرة كتب ماجد الغرباوي: يُصاب القانون بالخواء والشلل إذا نافسته مرجعيات أخرى فلا بد أن تكون إرادة القانون فوق إرادة الدين والعشيرة والحزب السياسي، وهذا لا يُلغي أهمية الدين في الحكم بل يلزم البشر باحترام القانون وحل النزاعات عبر القضاء لا فرض الرأي عنوة، فما قد تراه جماعة ما أنه ضد الدين، قد تراه جماعة أخرى أنه جائز شرعا، فلا يوجد تكفير وجمع النفير بين المسلمين بل هي فتنة وقد لعن الله سبحانه وتعالى من يشعل الفتن.
أما حركة فتح فتتكون من ثلاث مدارس أساسية وهي الثورية والواقعية والليبرالية الجديدة، كل منها أخذ فرصة تاريخية بإثبات أن مدرسته قادرة على إنجاز تقدم في عملية تحقيق الهدف الأساسي للحركة وهو تحرير فلسطين. بل ان هذه المدارس الفكرية هي ميراث تراكمي لنضال الشعب الفلسطيني منذ إعلان وعد بلفور وحتى الساعة، ولكل مدرسة خصائص تجعلها قادرة على الاستقطاب الجماهيري والتكتل مع المدارس الأخرى لتعزيز قدرتها وتمتين اللحمة التنظيمية في الحركة.
فالمدرسة الثورية: منهاجها العمل العسكري المؤسساتي كركيزة أساسية كونها قامت ببناء المؤسسات النقابية والاجتماعية والبحثية الفلسطينية، كما أنها من دعاة الوطنية القطرية فهي التي تدعو للقرار الوطني المستقل والاكتفاء المالي الذاتي والكفاح المسلح. ومهما قيل عن مميزات هذه المدرسة إلا أنها تعرضت لنكسات متتالية بعد مشكلات تيار المشايخ في بداية السبعينيات من القرن الماضي ثم تيار اليسار أواخر السبعينيات من القرن الماضي لكن كلا التيارين انشقا عن الحركة، أما من بقي من هذه المدرسة داخل الهيكل التنظيمي فتحول تفكيره من الالتزام الطفولي بالمثالية الثورية إلى ضرورة استمرار استنزاف العدو وإقامة عمليات عسكرية نوعية، إلا أنها مازالت تؤمن أن تحرير الأرض لن يكون إلا بالعمل العسكري ولا تؤمن أن العمل الدبلوماسي قادر على تحقيق أي إنجاز فعلي دون رافد قوة أساسي وفاعل. وهذه المدرسة تؤمن بضرورة بناء المؤسسات الفتحاوية ولا ترى أن من واجبها بناء مؤسسات لمنظمة التحرير الفلسطينية أو مؤسسات المجتمع المدني.
أما المدرسة الواقعية: فهي تؤمن بأن تغيير الواقع الفاسد يكون بالتدرج التراكمي المتأني، مما يستوجب التعامل مع كل مقدرات الشعب الفلسطيني والأمة العربية وأحرار العالم، فهي فتح البراغماتية التي توائم بين ضرورة الحصول على مكسب سياسي للعمل العسكري وإلا فلا داعي له، وبين أن مفتاح التأزم السياسي هو العمل العسكري النوعي القادر على تحقيق انفراج سياسي، هذه المدرسة هي أم الوحدة الوطنية والحاضن الفعلي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وهي أكثر المدارس فاعلية خاصة أن القائد المؤسس الشهيد ياسر عرفات هو الركن الأساس فيها. فهي التي سعت جاهدة إلى خلق هوية وطنية جامعة للشعب الفلسطيني، وهي التي حققت معادلة فلسطين الرقم الصعب في الفكر السياسي العربي، فهي التي حددت واجبات الثورة الفلسطينية اتجاه الدول العربية وكذلك حددت مهام الثورة اتجاه الشعب الفلسطيني، فهي أكثر من ثورة عسكرية ضد المحتل بل هي حرب شعبية طويلة الأمد هدفها يشمل أيضاً تخفيف أهوال النكبة عن طريق تسليح الشعب الفلسطيني بمقومات الحياة خاصة التعليم والصحة والعمل.
وأخيراً المدرسة الليبرالية الجديدة: وهي أحدث المدارس الفتحاوية إلا أن تأثيرها بصنع القرار الفتحاوي يكاد يكون مهيمناً على أغلب القرارات المركزية الحالية، وهي تؤمن بضرورة تطوير العمل التنظيمي ليتماشى مع الأساليب العلمية الأكاديمية الغربية مع الانفتاح أكثر نحو النخب المجتمعية دون ضمها للهيكل التنظيمي، بل الاستفادة منها والتعاون معها دون الحاجة لتحمل عبء ضمها للحركة، وهي مدرسة البناء والتنمية والنظام المؤسساتي للسلطة، وهي مماثلة لليبرالية الأمريكية وأعمدتها الثلاثة الأساسية هي البرجوازية الوطنية: (طبقة المستثمرين المتعاونين مع رأس الهرم التنظيمي حسب القاموس الليبرالي)، والبحث العلمي: (طبقة سماسرة الأفكار القادرين على ترويج الفكر الليبرالي)، والأمن القومي: ( طبقة حماية الليبرالية والتي تشمل جهاز مخابرات قوي ورقابة تنظيمية صارمة على الانحرافات الفكرية ومنع التكتلات الرافضة للمنهج الليبرالي).
ومفهوم الانتخابات في حركة فتح تطور عبر مسيرتها النضالية حتى وصلنا لمرحلة العلانية الحرة، لكن قاعدتها الأساسية هي الديموقراطية المركزية، فهي تعطي للعضو حق الانتخاب بعد انضمامه للحركة بسنة واحدة على الصعيد القاعدي وبعدها يصبح مؤهلاً لدخول انتخابات الحلقة ثم الشعبة ثم الإقليم بطريقة تدريجية تضمن السلاسة الاندماجية في العمل الديموقراطي، أما الأطر العليا فهي المجلس الثوري واللجنة المركزية وكلاهما منتخب من المؤتمر الحركي العام، وأعضاء المؤتمر يتم انتخابهم في مؤتمرات الأقاليم، وفي كل انتخابات فتح يحق للعضو أن يرشح نفسه، كما أن له حق التصويت دون التزام بقائمة محددة لأنها انتخابات داخلية، هذا ما ينص عليه النظام الداخلي للحركة إلا أن الواقع لا يكون دائماً مثالياً.
فتح الليبرالية الجديدة ليست مرضاً أو آفة بل هي تطور له منطقه الخاص، وأن البعض يأخذ عليها أنها خرجت عن الشكل العام للمدرسة الواقعية إلا أن أنصار الليبرالية ينعتون المدرسة الواقعية بأنها فوضى إدارية وتشابك للمهام والتكاليف، بل أنه يصعب محاسبة المخطئين في ظلها. فتح الليبرالية الجديدة هي جزء من الليبرالية العربية وهي تحكم كل دول الاعتدال العربي.
يعتبر الملك حسين ملك الأردن الراحل هو مؤسس مفهوم الليبرالية العربية ومنها خرجت المدارس العربية كافة في مصر ودول الخليج العربي وتونس والمغرب، ومنهاجه اعتمد على منح صلاحيات واسعة للديوان الملكي بالمقابل التقليل من فعالية المناصب الوزارية والمؤسسات الأمنية وخاصة الجيش، وحتى بعد الانفتاح السياسي وترخيص عمل الأحزاب السياسية والبرلمان كانت أيضاً غير فاعلة مقارنة بالديوان الملكي، فهو الحاكم الفعلي للبلاد. وعندما نقل أنور السادات هذا المنهج لمصر قصد تحجيم قوة الحزب الوطني الحاكم والجيش مقابل تقوية دور المخابرات ورجال الأعمال الموالين له، والأمثلة العربية التي تعزز الفكر الليبرالي العربي لفصل مؤسسة الرئاسة عن هيكل الدولة والأحزاب السياسية كثيرة، مما ساهم بتحويل الجمهوريات إلى نظام ملكي يؤمن بالحاكمية المطلقة للرئيس، فهو فوق المحاسبة وكلامه قانون لا بد أن يطبق انطلاقا من فكرة العادل المستبد في تاريخ الدولة الإسلامية في العصر الوسيط. فالحاكم بيده ثالوث القوة: الأمن والمال والتشريع القانوني من منظور معارضيه، لكنّ مؤيديه يعتبروه تطبيقاً للديموقراطية الغربية وخاصة الأمريكية. وهنا لا بد أن نفصّل تطور مفهموم مؤسسة مكتب الرئاسة في الولايات المتحدة والدول الغربية.
المعارضة السياسية الحقيقية هي التي تُشكل حكومة ظل أي أن تطرح علناً أسماء من تراهم أنسب لتولي المناصب الوزارية والبلدية، بل أن وزير الظل لا بد أن يُعلق على كل قرار يصدر عن الوزير المنتخب، وفي نهاية فترة ولاية الوزير المنتخب تأتي مرحلة تقييم لقرارات الوزير المنتخب وكذلك وزير الظل، بل أن الكثير من الأحزاب المعارضة تقوم بتغيير وزير الظل لسوء أدائه، كما أن البرلمان يحدد ميزانية الحكومة المنتخبة وميزانية أخرى لحكومة الظل في الديموقراطيات الغربية. أما المعارضة العربية فهي رومانسية وطفولية تعتمد على شحن العاطفة السلبية للرأي العام ضد الحكومة دون تقديم بدائل قابلة للتحقيق فهي لا تطرح أفكار تفصيلية أو خطة عمل لها بنود وسقف زمني وميزانية، بل أنها لا تُميز بين وزير فاسد ووزارة بها نظام إداري مترهل، فهي على مختلف أطيافها السياسية تتهم الحكومات بأمراض المجتمعات المتخلفة وهي الفساد الإداري والمالي والأخلاقي، ولكن هذه الأحزاب المعارضة عندما تستلم زمام الحكم، ولو كان على مستوى البلديات، تتصادم إن الخطاب المعارض مثالي وأن تنفيذ أفكارهم إلى أفعال أمر في غاية الصعوبة، ويبدأوا بتغيير مواقفهم حتى يصبحوا أقرب ما يكون لمن كانوا يعارضونهم في السابق، والسبب وراء ذلك عدم تشكيلهم حكومة ظل.
لكن هناك منافسان لحركتي فتح وحماس وهما أحياناً من يحسم أمر الانتخابات حسب ما تتحفنا به وسائل الإعلام التي تصف نفسها بالمحايدة، فهناك ضلال وتضليل يسعى لتسعير الخلافات ودفعها نحو العنف الاجتماعي بإعادة الحياة السياسية في فلسطين لطور الديموقراطية الجنينية التي تعتمد على العشيرة والانتماء العائلي، رغم أن دور كبير العائلة والمخاتير أصبح هامشياً في الحياة الاجتماعية، بل أن مجتمعنا أصبح يؤمن بسيادة القانون المدني ويتعامل مع المؤسسات لحل مشكلاته اليومية، وأن معدل الاستدانة من البنوك في فئة الشباب عالية مما يعني تفضيلهم الاستدانة واستقلالهم المالي الذي لا يربطهم بكبير العائلة مالياً، وأن نسبة العمل في المؤسسات العائلية في المجتمع الفلسطيني لا تتجاوز 5% بالمقابل أن العمل بمؤسسات السلطة وكذلك العمل في القطاع الخاص المحلي والإقليمي يشكلان الركيزة الأساسية للاقتصاد الفلسطيني، كما أن نسبة المتزوجين الذين يشاركون أهاليهم نفس السكن منخفضة لدرجة تصل إلى 8% وهي لا تحسب نسبة من يشارك أهله نفس المبنى لكن يكون له شقة خاصة وبالتالي مصروف خاص وقرارات خاصة، فهل فعلا أن العشيرة تقدم للفرد أي حقوق ليقدم لها واجب الطاعة؟ أم أنه لا يرى أن الأحزاب السياسية هو من يقوم بدور العشيرة بالوقت الحاضر! لدرجة أن البعض يقول مازحاً أنا من عشيرة فتح، فأبناء الحركة من يزوروني ومن يشاركني همومي ويساعدني في حل مشاكلي، وأتوقع أن باقي التنظيمات السياسية تقدم ما تقدمه حركة فتح لأبنائها على صعيد الاحتضان الاجتماعي.
ما استطلاع الرأي الذي قام به مركز أرواد للبحوث والذي نشر 21/7/2016: يؤكد أن الغالبية تريد قائمة فتح موحدة وهي التي ستدعمها الغالبية الشعبية في قطاع غزة، أما إذا تبعثر الفتحاويون في قوائم متنافسة فإن أغلب الناخبين سيختاروا على أسس عشائرية.  كما أن المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية قام في قراءة لاستطلاعات الرأي عن شعبية حركة فتح مقابل حركة حماس بشكل دوري خلال الثمانية أشهر الماضية فهي تعطي تفوقاً مستمراً لأداء حركة فتح ورضى الجماهير عن دورها الميداني وقد يقرأ البعض أن معدل 35% غير مرتفع لكنه في الحقيقة عالٍ جداً في دول العالم الثالث حيث أن الغالبية العظمى من الناس لا تفضل الإجابة عن هذا السؤال في استطلاعات الرأي وحدودها في فلسطين 47%، وهذه هي المواطنة الصعبة التي شرحناها في البداية.
وإذا كنّا قد كتبنا رأينا بدور العشيرة في حياة المواطن الفلسطيني بالوقت الحالي، فلا بد أن نعرج للمنافس الثاني للتنظيم السياسي، فهو الخيار المثالي للكثيرين من خلال الإيمان بالمثل الشعبي أعطي الخبز لخبازه، رغم قناعتي الراسخة بأن التنظيم السياسي هو خبّاز الحياة السياسية، أما ذو الاختصاص المهني ( نقولها التكنوقراط وللأسف هي أقل من ذلك بكثير) فهم مجرد موظفين همهم الراتب آخر الشهر، والغريب أن أول انتخابات بلدية في مدينة القدس عام 1863م أي قبل قانون التنظيمات العثماني، سمي بالمجلس البلدي ضمن قانون قائمة من اثني عشر عضواً منهم ستة مسلمين واثنان مسيحيان وواحد يهودي والباقي منتدبون من دار الافتاء على أساس أن يكونوا من ذوي الكفاءة المهنية بأقسام الهندسة والقانون والتجارة والطب ويجيدوا اللغتين العربية والتركية إن أمكن بالإضافة إلى مقعد للمتصرف أو من ينوب عنه، وفي قراءة للمجالس المنتخبة خلال ثلاثين سنة فإنها كانت تلتزم بهذا القانون.
إن تسمية كادر مهني متخصص هو أساس مفهموم التكنوقراط أي ذو الكفاءة المهنية، وهؤلاء عادة ما يكونون ذوي تعليم وخبرة محددة باختصاصات محددة كما يتصور الغالبية العظمى من الشعب، لكن الحقيقة أن التكنوقراط لهم مفهوم أوسع من مجرد خبراء في مجال محدد، فبلإضافة لإلمامهم بالمواضيع المتعلقة باختصاصهم وهو الركن الأول الأساسي، لا بد أن يكون لديهم قدرة التأثير على صعيد المجتمع أو على الأقل الدائرة الاجتماعية المحيطة بهم في العمل والسكن مثل العشيرة والنقابة والجامعة وهي الركن الثاني، وأيضاً إلمام بآلية العلوم الإدارية والمالية لفهم ما يمكن عمله ضمن خطة عمل علمية وميزانية محددة وهي الركن الثالث، أما الركن الرابع هو متابعة الحياة السياسية وفهم آليات اتخاذ القرارات السياسية ورسم خطط للسياسات العامة للبلدية أو الوزارة. وقد كتب خوسيه غاسيت: أن المهندس والطبيب والمحامي يقفون عاجزين أمام الأمور الخارجة عن اختصاصهم، لقد قتل التعليم الحديث مفهوم العالم المثقف، فقد كان اينشتاين قارئا نهما لكتب الفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والتاريخ، وهو الذي قال: لو أنني قرأت كتب الفيزياء فقط لبقيت مجرد عامل مختبر. لذا فإن المهندس المثقف على سبيل المثال هو الذي يقرأ القانون والطب وغيرها من العلوم، أما من يكتفي أن يكون مجرد آلة متخصصة بحقل واحد ليس له حظوظ في التطور الاجتماعي ولا يمتلك صفات المواطن الساعي لتطوير مجتمعه، لذا فهو غير مؤهل لتمثيل المجتمع.
إذن المطلوب من أبناء وبنات حركة فتح أن يرفعوا من وعي المواطن العادي ودفعه للتفكير بعمق عندما يختار من يمثله ومن يقوده، أما السكوت عن المسلكية الخاطئة التي تعزز أن التكنوقراط موجود أصلاً في فلسطين فهذه جريمة كبرى، كما أن دور العشيرة في قرارات المواطن اليومية ثانوي لدرجة أن علم الاجتماع يبعده عن دائرة رأس المال الاجتماعي المؤثر بالحياة اليومية للمواطن لكنه جزء من الموروث الاجتماعي والاقتصادي للمواطن، إن تقزيم دور التنظيم السياسي أخطر ما يواجه التطور الديموقراطي في فلسطين، وهي كما كتب الفيلسوف كانط: إن القوة الخارجة التي تحرم الانسان من حرية توصيل أفكاره بشكل علني، تحرمه في الوقت نفسه من حرية التفكير. أي أننا نعود للبدائية في الحكم عن طريق الديموقراطية الجنينية.
فالمطلوب فعلياً استقطاب المجتمع لانتخاب قائمة حركة فتح ومناصرتها علناً، علماً أن أساس نظرية الاستقطاب. ولتكملة نظرية الاستقطاب لا بد من الحديث عن الاستقطاب الحثي- أي تحفيز المواد غير المستقطبة وتحويلها لمادة قابلة لاستقطاب عن طريق الحث الدائم.
أما تطبيقها في الفكر التنظيمي يعني أن القيادة الفتحاوية (اللجنة المركزية والمجلس الثوري وأعضاء الأقاليم والكوادر النشيطة) تمثل المغناطيس وأبناء التنظيم يمثلون الحديد والمواد القابلة للقيادة الفتحاوية، أما الخشب فهم قيادات التنظيمات الأخرى، وأما باب الحديد فهي العشيرة المتماسكة ذات الرأي الموحد، وبخصوص الحث الكهربائي فهو انتشار أبناء وبنات الحركة في الأوساط الشعبية بما فيها أعضاء وأنصار التنظيمات الأخرى، وعرض فكر حركة فتح وقائمتها لهم وحثهم على انتخابها، وهناك حث فوقي هدفهم إقناع وجهاء العشائر والطبقة المثقفة الواعية ليتحولوا إلى عضو ناظم في حركة فتح ينشرون فكرها ويدعمون مرشحها، كما أنها فرصة لأبناء التنظيم لترفيع رتبهم في الهيكل التنظيمي وتحويلهم من حديد إلى جزء من المغناطيس أي حصولهم على ترقية عبارة عن ترفيع رتبهم التنظيمية.
أما أساليب حث المواطنين لانتخاب قائمة حركة فتح فهي متنوعة، والقاعدة الميكافيلية هي أساس أي انتخابات في العالم أي الغاية تبرر الوسيلة، فكما يتم طرح النزاهة المالية والكفاءة المهنية والقبول الاجتماعي والأخلاق الفاضلة في مواصفات المرشح الملهم، فهذا يعني أن كل أبناء وبنات الحركة تنطبق عليهم مواصفات المرشح الملهم، إلا إذا كانت القضية نهشاً وهبشاً وتبلياً وافتراء، فالذين ينعتون أبناء الحركة بالفساد نقول لهم الكلام سهل إن كان من صغار العقول، فمعدل الشفافية في المؤسسات القضائية الفلسطينية يوازي المعدل العالمي للشفافية، ونسبة الفساد المالي والإداري في فلسطين تعتبر الأقل مقارنة بجميع الدول العربية ولم يقدم في أي محكمة فلسطينية قضية ضد مسؤول فتحاوي بتهمة فساده المالي أو الإداري، أما الكلام دون قرائن وبراهين جزء من عجز التنظير السياسي عند الخصوم السياسيين لحركة فتح.
ولعله يحق لنا في ظل هذا المناخ الاستفزازي تطبيق ما كتبه غوستاف لو بون: أن تفهم ماذا يريد الجمهور مهم جداً إذا أردت أن تنجح بالانتخابات بل عليك أن تتطبقها حتى لو كانت بعيدة عن شخصيتك وفكرك السياسي، فالجماهير تحكمها العاطفة لا المنطق، أولا اهتم أن تكون ذا هيبة ووقار فالجمهور لا ينتخب من هو مماثل لهم بل يبحثون عما هو أفضل منهم، ثانياً كن هجومياً ذا لسان سليط على خصومك السياسيين، لكن تملق بفرح لجمهورك، ثالثا: لا تكتب خطة عملك ولا تعد بتنفيذ نقطة محددة دون أن تقول إن أمكن وإن ساندني جمهوري ودعمتني القيادة العليا. لعل هذه النصائح لا تمت للفكر الثوري بصلة لكنها قاعدة ذات فاعلية عند الأحزاب الليبرالية.