مجلة القدس العدد 328 تموز 2016

تحقيق/ وسام خليفة

 

ارتفعَت في السنوات الأخيرة نسبةُ الجرائم المرتكَبة في فلسطين، ووسط انتقادات اجتماعية لازدياد النسبة وقصورِ القوانين وعدمِ وجود حلول قوية رادعة لحدوث الجرائم،كان هناك اختلاف اجتماعي على دور القانون في حل هذه الجرائم ودور رجال الاصلاح في فلسطين. فالبعضُ يرى أنَّ الاصل هو الاحتكام الى القانون، فيما يرى آخرون أنَّ طبيعة المجتمع الفلسطيني القَبلية والعشائرية تفرض وجود لجان الحل العشائري لتعمل بالتوازي مع القانون. فما هي أهمية الحل العشائري في فلسطين؟ وكيف يُعمَل به في ظل وجود القانون؟

 

تكاملٌ في العمل بين الصلح العشائري والقانون

ينوِّه عميد الاصلاح في فلسطين الحاج موسى تيم إلى أنَّ هدف الصلح والقضاء العشائري إصلاح ذات البَين وليس إلغاء دور القانون، حيث يقول: "الصُّلح العشائري يُمارَس منذ العهد الجاهلي، وهو شيء ورثناهُ من أجدادنا، وقد كان القضاء العشائري بمنزلة المحاكم لهم، ومنه استمرَّينا بتطبيق القضاء العشائري والصلح العشائري، حيث أنّ الصلح العشائري يُتَّبَع لاصلاح ذات البين، أمَّا القضاء العشائري فهو اختصاص قاضٍ مختَص بالأحكام العشائرية، وعلينا أن نشدّد على أنَّ القضاء العشائري لا يعوِّض عن السلطة التنفيذية، بل يعمل بالتوازي معها، ومساندًا لها، فبدون السلطة التنفيذية القضاء العشائري سيواجهُ مشاكل تحلُّها عادةً التنفيذية، وأود أن أذكر أمثلة عن اهتمام العالم بالقضاء العشائري في فلسطين حيث أنّني شخصياً ذهبتُ الى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لإلقاء محاضرات تتحدَّث عن الصلح العشائري، وحتى الاحتلال الاسرائيلي بدأ يلجأ الى استخدام الحل العشائري، لأن الصلح العشائري يوفِّر أموراً كثيرة منها الوقت. فالقضايا تأخذ وقتاً كبيرًا في المحاكم بخلاف الحكم العشائري الذي يحل الامور في وقت أقصرَ بكثير، وفي نهاية المطاف حتى لو نُفِّذ الحكم في قاتل على سبيل المثال، فالحكم القانوني لا يكون كافياً في أحيان كثيرة لأهل الضحية ولا يسدُّ حق العشيرة كما الحكم العشائري، لأنَّ القضاء العشائري يعمل على تهدئة النفوس واصلاح ذات البين بين المتخاصمين".

ويضيف مؤكّداً "الصلح العشائري ليس بديلاً عن القانون، ولكنّه يساعد القانون، فعلى سبيل المثال في حوادث القتل يتدخَّل الحكم العشائري ويفرض هدنةً مدة ثلاثة أيام ونصف، وذلك لتهدئة النفوس، وخلال هذه الفترة تقوم الجهات الأمنية بنشر قواتٍ لفرض الهدنة، والحرص على عدم حدوث أيّة أعمال انتقامية، أو حجز من يُتوقَّع قيامهم بها، وبالتالي هنا يكمن الدور التكاملي، وبعد قيامنا بدورنا يأتي دور القانون الذي سيأخذ مجراه. فالعشائر تحاول مساعدة القانون لا عرقلته، ولمن يريد معرفة أهمية القضاء العشائري، فلينظر الى الملك حسين، رحمه الله، حيث كان له مستشار في الحكم العشائري، وأيضاً الشهيد الرئيس ابو عمار، وكذلك الرئيس محمود عبّاس الذي يعتبرني مرجعيّته في العشائر، وذلك لأهمية العشائر في حل المشاكل كوننا مجتمعاً عشائرياً".

ويشير الحاج موسى تيم إلى أن الفلسطينيين منذ بداية الاحتلال وحتى دخول السُّلطة الفلسطينية الى الوطن لم يتعاملوا مع القضاء الاسرائيلي، باستثناء قلة قليلة، لأنَّهم كانوا يلجؤون للصلح العشائري باعتباره قضاءَهم المتنقّل.

ويردف "اليوم أصبح الناس يلجؤون للقانون والمحامين ليترافعوا في قضاياهم، ولكن استمرارية وجود القضاء العشائري سيحدُّ من عمل المحامين، وذلك سبب في وقوف المحامين ضد الصلح العشائري، فمِن مصلحة المحامي أن تطول مدة القضية لأنه سيستفيدُ مادياً منها، ورجال الصلح العشائري أسرع في الحل من القانون في كثير من القضايا".

 

الاصلاح العشائري يخضعُ لمعايير محدّدة

يرى الحاج موسى تيم أن "بعض المندّسين والدخلاء على مجال الصلح العشائري شوّهوا صورته، ولا سيما من يأخذون المال لقاء حل المشاكل. لقد أساؤوا للعشائر، وكثيرٌ من الناس الذين لجؤوا إليهم تضرّروا بسببهم، فهناك من باعَ بيته ومصدر رزقة وخسر كل شيء، ولكن الناس عليهم أن يعرفوا من يقصدون، فمن يطلب نقوداً لحل مشاكل الناس ليس هدفه الاصلاح".

ويردف "يستمدُّ القضاء العشائري أحكامَه من الآباء والأجداد ممّا كانوا يقضون فيه، وأصبحت عرفاً من وقتها، وكأنّها قوانين خاصة بالعشائر، ولكن بدون مواد القانون، وهناك معايير معيّنة تحكم العرف العشائري، وتختلف بين بلد وبلد، غير أنَّ العديد من بلداننا العربية تلجأ لنفس الحل لاصلاح ذات البين. ولكن هناك بعض الشروط التي يجب أن تنطبق على مَن يتولّى قضايا الحكم العشائري، أهمُّها أن يكون نزيهاً، ومؤهَّلاً، وله سلطة لفرض الحكم، وقوياً، وعادلاً ظالماً كان موكِّلُهُ أم مظلوماً، والكثير من العائلات الكبيرة لها شخص كبير يتحدَّث باسمها وكلمته كالسيف عليهم جميعاً تُنفَّذ بدون اعتراض".

ويتابع "القضاء الفلسطيني قضاءٌ نزيه ومستقل، وأكن له كلَّ الاحترام، والعشائر تعمل بالتوازي معه. فعندما تردنا قضية قتل تتدخَّل العشائر، وتحد من الاضرار، وتحاول تهدئة النفوس، ولكن وصولنا لاتفاق لا يعني أنَّ دور القانون أُلغي، فهناك الحق العام، والقانون يجب أن يأخذ مجراه. ولا ننسى أنه مع قدوم السلطة الفلسطينية تغيّر الوضع كليَّاً لجهة التعامل مع العشائر، إذ انه لا توجد أي عائلةٍ إلا وبين افرادها عناصر في الاجهزة الامنية، ووجود التدخلات من الاقرباء في حل مشاكلهم مع القانون أوجدَ تغييراً في الظروف، وهذا لا يلغي استقلالية القضاء، ولكنه خفَّف اللجوء قليلاً للقضاء العشائري.

ولعلَّ أكثر القضايا التي يصعب علينا حلها هي القضايا التي تتعلّق بالدم والقتل، إذ من الصعب التنقُّل بين مناطق وبيوت وتهدئة النفوس ومساعدة الجانبَين في الوصول إلى حلِّ، فالعصبية ليست حلاً، والتهوُّر يضرُّ بصاحبه، وهناك العديد من القضايا التي قلبَت المحقوق الى صاحب حق بسبب التهور والتهديد من الطرف الآخر، وأعرف أشخاصاً باعوا بيوتهم ولم تكفِ لسدِّ دية المقتول، لذا أُناشِد من خلال مجلتكم أبناء شعبنا بألّا يتهوّروا لأنَّ التهوُّر يقود إلى ما لا تحمد عقباه".

 

الاصلاح العشائري يخدم الشعب وفق مبدأ العدالة واحقاق الحق

الحاج واصف محمد شكوكاني "أبو جميل" ورثَ مهمّةَ الاصلاح عن والده الذي قضى حياته في اصلاح ذات البين، وكان عضواً في العديد من لجان الصلح العشائري، وعمل على الكثير من القضايا التي توجَّهت للحكم العشائري.

وحول تجربته يروي الحاج واصف شكوكاني: "تعلَّمتُ الاصلاح من والدي الذي كان يدعوني لأكون مُصلحاً بين الناس قائماً على خدمتهم، فنفَّذتُ وصيَّته، وبدأتُ بالاصلاح بين الناس وعمري لا يزيد عن 20 عاماً، وأنا أؤمنُ بأنَّ من يُصلِح بين الناس كمَن يجاهد في المعركة لخدمة الشعب وخدمة الوطن، والحمد لله، وفّقني الله، وأتمَّ عليّ نعمتَه بأن حلَلتُ كثيراً من المشاكل بمنتهى البساطة والسهولة خلال 60 عاماً قضيتها بالاصلاح".

وعن الصفات التي ينبغي للمُصلح أن يتمتّعَ بها يقول: "يُشترَط برجال الصلح العشائري أن يكونوا عادلين، وغير منحازين لأيّ طرف، وغير مرتشين، وحازمين، ولبقين، يخشون ربَّهم قبل أن يخافوا الناس، وفقط حين يكون المصلح بهذه الصورة ينالُ احترام الناس وثقتَهم بحُكمِه وتقديرهم لكلمته".

ويرى الحاج "أبو جميل" أنَّ دَور رجال الاصلاح يخدم الشعب أكثر مما تخدمه المحاكم الشرعية والمدنية، كون الأخيرة بحسب رأيه، ترضي طرفاً واحداً فقط حسب القانون، فيما رجل الاصلاح يأخذ من هذا ويعطي هذا ويُرضي الطرفَين شريطة أن يتوافق ذلك مع ما حلّله الله وحرّمه، وألا يكون لمصلحة شخصية. ويلفتُ إلى أنَّ بعض القضاة في المحاكم يعمدون لتكليف رجال الاصلاح الذين يعرفون أنَّهم سيحكمون بما يُرضي الله ويُحق الحق، بحل إحدى القضايا، لأنّهم يرون هذه الوسيلة أفضلَ للحل، مؤكّداً أنَّ الذين يصيبهم الغرور ويتمادون ليسوا برجال اصلاح وإنما يسيئون للصلح العشائري، لأنَّ المصلح العشائري يجب أن يكون رجلاً شريفاً يحترم القانون والقاضي.

ويتابع "هناك مقولة شعبية تقول (الموضوع بنحل بفنجان قهوة)، وهذا كلام مرفوض من يقوله يسعى لإضاعة الحق، فاعتذار الشخص له قيمته أمام الناس، والاهانة التي سيشعر بها امام الناس ستكون لها قيمتها اذا كان معتدياً وعليه الحق، فماذا سيستفيد من قُتِلَ له ابن إن أُعدِمَ قاتله؟ وبالتالي الصلح العشائري حل ناجح ويئد الفتن ويحقن الدماء إذا كان رجل الاصلاح قويّاً في موقفه وحكمه، ونزيهاً مراعيا الله في سعيه لوأد الفتن، لكن اذا كان رجل الاصلاح ضعيفاً فهذا يعود سلباً على أصحاب القضايا، وأيضاً على صورة الحل العشائري في المجتمع. وبالنسبة لي، فقد كُلِّفُت بعدة قضايا من المحاكم وهذا لاقتناع رجال القانون بأهميّة الحلول العشائرية في حل المشاكل، خاصةً أنَّ الأحكام ليست بمعزل عن القانون بل نحن نلجأ للقانون أيضاً لأهميّته، والأحكام استُمِدَّ معظمها من القرآن والسُّنة النبوية والعادات والتقاليد والاحكام العشائرية السابقة التي ورثناها عن أجدادنا والتي أثبتَت نجاحها".

ويضيف "أنا افضّل استمرار العمل بالصلح العشائري لسبب واحد هو أن الحكم العشائري يُصلح بين الناس ويُرضي الطرفين فيحوّل من كانوا أعداء لأسرة واحدة، بينما المحاكم حين تحكم لصالح أحد الأطراف، يصبح الطرف الآخر ناقماً على الطرف الأول والمحكمة ظنًّا منه أنه هو صاحب الحق. وبالتالي فالصلح العشائري أهميته كبيرة إذا كان رجل الاصلاح يعمل بنزاهة، ولكن للأسف بعض الدخلاء أساؤوا لرجال الصلح العشائري، إذ كانوا يُوجدون المشكلة ليحلوها ويُقال عنهم أنهم لجان اصلاح. كذلك هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق رجل الاصلاح، إذ عليه أن ينسى بيته واولاده وكل شيء ليمنع اعتداء الناس على بعضهم، وفي إحدى المرات سهرنا عشر ليالٍ تباعاً، وأوينا أشخاصاً مُتَّهمين بالقتل خوفاً من الاعتداء عليهم". ويختم كلامه قائلاً: "رسالتي من خلال مجلتكم لكل رجل اصلاح، أولاً أقول عليك أن تتقي الله وتعلم أنَّ الله يراك وأنت لا تراه، ثانياً يجب ان تكون عندك الجرأة الكافية لقول الحق مهما كان الخصم قوياً أو ضعيفاً، ثالثاً، إياك وأخذ أي قرش أو قبول عزومة من أي طرف لئلا يشتريك أحد".

 

القضاء العشائري يساند القانون في تحقيق السّلم الأهلي

لأهمية الصلح العشائري ولادراك صُنّاع القرار قدرة رجال الاصلاح على اصلاح ذات البين تعمل المحافظات في الوطن على فرز مُختصٍّ في الشؤون العشائرية يساهم في التنسيق بين الجهات الرسمية ورجال الصلح العشائري كما يكون له دورٌ في طرح حلول.

وفي هذا السياق تقول محافظ محافظة رام الله والبيرة الدكتورة ليلى غنّام لمجلة "القدس": "شخصياً أتمنّى أن نكون دولة قانون بحت، ولكن بحكم الظروف التي نعيشها وطبيعة المجتمع الفلسطيني العشائري القَبلي الذي تطغى عليه هذه الصفة، وكوننا دولةً ناشئة نتعامل مع أمر يُزاوَل منذ سنوات طويلة علينا التعامل معه بحكمة والاستفادة منه لما فيه مصلحة الناس. هناك دول كثيرة في المحيط لها عشرات السنين وما زال الطابع العشائري يغلب عليها، لكن المهم أن يكون الدور العشائري موازيّاً ومسانداً للقانون، لا بديلاً عنه أو خاضعاً لسلطة أشخاص متنفِّذين، ونحن نلجأ إليه لتحقيق السلم الأهلي وتخفيف فتيل التوتر بين الناس في حين الحدث.

صحيحٌ أننا كنا نستعين في الفترة الأخيرة برجال العشائر، ولكن يجب أن نكون صريحين مع أنفسنا ونعرف من هُم رجال العشائر الأفضل الذين يريدون العمل لله وللوطن وللمواطن، فالبعض حاولوا الادعاء بأنّهم رجال اصلاح، ولكنَّهم كانوا للأسف الشديد مرتزقة هدفهم المال وإن على حساب الناس. وبرأيي الحل العشائري اليوم يؤدي دوراً موازياً ومسانداً للقانون في تحقيق السلم الاهلي بين الناس، خاصةً أننا ما زلنا دولةً تحت الاحتلال، والكثير من المناطق لا سيطرة أمنية لنا فيها، لذا نتعاون كثيراً مع رجال العشائر والتنظيمات فيها كي نصل إليها بالأمن، ولمعالجة قضايا القتل وغيرها".

وتضيف "نحن كمحافظة رام الله والبيرة رفضنا أن تكون هناك مسميات او بطاقات لناس معروفين لدينا، وكل محافظ يعلم طبيعة محافظته والبيئة التي يعمل فيها، ورجال الصلح ليس شرطاً أن يكونوا ذكوراً، فهناك قضايا كثيرة نستعين فيها بالنساء للقضايا العشائرية، وكل مشكلة حسب طبيعتها، فما يهمُّنا أن يكون لهم تأثير في المجتمع. وفي الوقت ذاته كانت هناك اجراءات قمنا بها لسحب قضايا من أشخاص وصلت إلى أنَّنا أبلغناهم أنّهم إذا تدخّلوا بأي قضية من هذا النوع سيتم محاسبتهم قانونياً، بعد أن تبيّن أنّهم مرتزقة".

 

بين القضاء القانوني والقضاء العشائري..أيهما يفضِّل المواطنون؟

ترى د.غنّام أنَّ وجهة النظر للقضاء العشائري تختلف بين شخص وآخر كلٌّ حسب قناعاته ومصلحته، موضحةً "المحامون مثلاً، بعضهم يكون هدفه حل القضية، وآخرون يرفضون أخذ قضايا إذا كانوا يعلمون أن فيها أذى ومضرّة، وهناك محامون يتعمّدون المماطلة والتأجيل في قضايا حلُّها بسيط لكسب نقودٍ أكثر، بينما غيرهم حين يعلمون أنَّ القضية يُمكن حلُّها بمساندة من المحافظة ورجال العشائر يقومون بأنفسهم بتوجيه أصحاب القضية، لأنّ هدفهم حل القضية، والمحامي النزيه لا يرضى بإنهاء القصة على فنجان قهوة، ولا أنا أيضاً، ولا القضاء العشائري الصحيح، بل يجب أن تكون هناك عِبرة وقصاص".

وتردف "للأسف الحديث عن ضعف القانون يؤلمني، فهناك كثرٌ يتوجهون إلى المحافظة باحثين عن الحل هنا، لأنّ القانون ضعيف أو لأنَّ المحاكم تأخذ وقتاً كبيراً، ولكن يجب أن يكون لدينا ثقة بالقضاء لأنه إذا كان القضاء بخير تكون الدولة بخير. صحيح أنه ليس من اختصاصي الحديث عن القضاء فهناك مختصون لذلك، ولكن أملي كبير أن يكون القضاء على الدوام قوياً وفعّالاً، مع التنويه إلى أن لجوء البعض لنا ليس بسبب ضعف القانون دائماً، بل لأنَّ حلولنا أسرع، نظراً لكثرة وضغط القضايا في المحاكم وقلَّة الكادر، ودائماً صاحب القضية يريد أن تنتهي قضيته بسرعة، وفي الوقت ذاته هناك أشخاصٌ يرفضون حكم القانون ويفضّلون اللجوء الى التحكيم العشائري، وإذا لم يعجبهم الحكم يرفضونه أيضاً لأنّهم يبحثون عن حكمٍ يُفصَّل على مقاسهم".

وعن أنواع القضايا التي تحلُّ عبر القضاء العشائري تقول د.غنّام: "علينا التمييز بين أنواع القضايا، فبعضها تحل عبر القضاء العشائري ولا تصل إلى المحاكم أصلاً، كالقضايا التي ليس فيها حق عام، وهناك قضايا تعالج بالتوازي بين الجهتين، كقضايا القتل، لوجود حق عامٍ فيها، فالحق الشخصي يمكن للشخص التنازل عنه، ولكن الحق العام ليس ملكاً لأحد ولا يسقط في القانون، ويلجأ الناس عادةً في هذا النوع من القضايا للحكم العشائري لأنه يُوجِد نوعاً من التفاهم لاسقاط الحق الشخصي، وحينها يصبح حكم الحق العام في المحاكم مخفَّفاً. ورسالتي الأخيرة إلى أبناء شعبنا بأن يتوخوا لدى توجُّههم للقضاء العشائري اختيار الأشخاص المؤهّلين الذين يعملون فقط لله في حل الخلافات بين الناس، وأن يحذروا المرتزقة لأنّكم إن اشتريتموهم بالمال، فقد يأتي أحد غيركم ويشتريهم بمبلغ أكبر".

 

علاقة قائمة على الاسترشاد والمشاركة

لمعرفة طبيعة العلاقة بين رجال القانون ورجال الصلح العشائري كان لا بدَّ من الحديث مع الشرطة الفلسطينية كونها جزءاً مهمّاً في قضايا فض النزاعات ولاحتكاكها مع رجال الصلح العشائري، لذلك توجَّهت مجلة "القدس" للناطق الإعلامي بـِاسم الشرطة الفلسطينية المقدَّم لؤي ارزيقات ليصفَ لنا العلاقة التشاركية بين القانون والصلح العشائري، حيثُ قال: "المجتمع الفلسطيني مجتمع قَبَلي وعشائري، ورجال الاصلاح في فلسطين لهم تأثير قوي في المجتمع الفلسطيني، ولهم كلمتهم، لذلك نتعامل مع رجال العشائر بنوع من الاسترشاد بآرائهم ولكن بدون إلغاء دور القانون لأنَّ القانون هو مرجعيتنا الأولى، وفي حال تمَّ حل المشاكل البسيطة في النطاق العشائري يُؤخَذ بها من القضاء. ونحن في الشرطة الفلسطينية نقوم بتطبيق القانون كونه مرجعيتنا، ونُخضِع المخالفين للقانون، وفي حالات المتشاجرين مثلاً نخضعهم لأحكام القضاء، ونسترشدُ بآراء العشائر عندما يتدخّلون للاصلاح، ولكن اذا تبيّن أن أحدَ الاشخاص نيته سيئة ووردَتنا شكوى بحقّه من أي طرف نقوم بالتعامل معه ضمن إطار القانون. مع الإشارة إلى أنَّ دور رجال العشائر يتفاوت من منطقة إلى أخرى، ففي مناطق الجنوب يلجؤون للصلح العشائري والعشيرة بشكل كبير، لما للعشيرة من سلطة وكلمة على أبنائها، ومع ذلك إذا لجؤوا للقانون فله الاولوية، وهو ذو دور مهمٍّ لما يقدِّمه من حلول جزئية قوية وفعّالة في فضِّ النزاعات وعقاب الجناة أكثر من العشائر التي تعمل على اصلاح ذات البين وتهدئة النفوس".

ويضيف "نحن نسعى لإقامة دولة القانون، والمجتمع الفلسطيني أصبح يميل أكثر إلى هذه الثقافة، وقد بات الناس يتوجهون للقانون بشكل أكبر من سنوات سابقة، ونحن نأمل أن نصبح دولة قانون يكون فيها القانون هو الفصل في جميع المشاكل. واليوم أصبح هناك كمٌّ هائلٌ من القضايا المرفوعة أمام القضاء الفلسطيني وهي تفوق الفترات السابقة التي كان فيها القضاء العشائري هو السائد، حين كانت الشجارات التي تنشب وجرائم القتل التي تُرتكَب تخضع لحلول عشائرية، وقد تغيّر الوضع الآن، إذ بات توجُّه الناس للقانون والقضاء أكبر بكثير ويعود ذلك للدور التوعوي الذي تقوم به الشرطة لجعل الناس يتوجّهون للقانون. ولبيان كيفية تعامل رجال القانون مع العشائر سأضرب لك مثالاً. فلنفرض أنَّ شجاراً وقع بين عائلتين، في هذه الحالة تقوم الشرطة بالتوجه للمكان لفض الشجار واحضار المتشاجرين والتحفُّظ عليهم من اجل تحويلهم للمحاكم والقضاء، وهنا يتدخّل رجال الاصلاح من العشائر لمعالجة المسألة عبر العطوة وهي التعويض والحل الذي يتم بالتراضي بين العائلتَين من أجل حل المشكلة قبل أن تصل للقضاء، ويتم ذلك بفرض هدنة وكتابة صك صلح مكتوب بكفالة العشائر التي تدخّلت يُوضَّحُ فيه كيفية التعويض والحل المطروح لحل المشكلة، ثم يقومون بالتوجه للشرطة، ويقدمون صك الصلح الذي يُقدَّم للمحكمة التي تتعامل معه بأنه حل الاشكال ولا داعي لتعقيد الامور في القضاء وأخذ إجراءات أكثر صرامة".

 

بعض الأعراف والعادات تؤدي لتطور الاشكالات

يرى المقدَّم ارزيقات أنَّ السبب الرئيس لتطاول المواطنين على بعضهم وتطوُّر الشجارات هو "ثقافة فنجان القهوة"، موضحاً "باتَ البعض يضع في حسبانه أنه وإن تطاول على غيره فإنَّ القضية ستُحلُّ على فنجان قهوة، وأنا أدعو الى الكفِّ عن هذه العادة الخطيرة والتشدُّد في الاجراءات القانونية. فنحن نلاحظ أنَّ الجرائم في السنوات الماضية ارتفعت بنسبة ملحوظة وأحد الأسباب الرئيسة لذلك هو بعض الأعراف والعادات لأنّها تفرض على ابن العائلة ان يقف الى جانب عشيرته بدون التروي ومعرفة الأسباب، إضافة الى قلة التشدد في العديد من القضايا سواء أكان في المحاكم او في القضاء العشائري، وللحدِّ من ذلك يجب ان يكون هناك حكم مشدَّد، وعدم الأخذ بصك الصلح العشائري للتخفيف من الحكم، ولو درسنا أسباب الشجارات لوجدناها بسيطة، فهي إما شجار بين اطفال تطوَّرَ ليصبح بين الكبار، او خلاف على قطعة ارض، او أمور مالية تتطوّر بشكل كبير لأنّ من يمتلك زمام الامور في بعض الحالات أُناس يدعون للعنف، ونحن ندعو لتغليب لغة الحوار على العنف وندعو القضاء للتشدد في الاحكام والسرعة في البت في القضايا بين المواطنين، خاصةً أنَّ تدخُّل رجال العشائر في بعض الاحيان يتسبّب بإشكاليات، لأنَّ القانون كي يأخذ مجراه يجب التقدم بشكوى من قِبَل الاطراف للشرطة، وعندما يتدخل بعض رجال العشائر ويدعون لعدم التوجه للشرطة، فإن هذا يعيق عملنا ويمنعنا من حل القضية ما يتسبّب بعديد من المشكلات".

ويختم المقدَّم ارزيقات حديثه قائلاً: "رسالتنا لكل شخص ينوي افتعال المشاكل أن ينظر لمن سبقوه ممَن ارتكبوا جرائم وتسرعوا في اتخاذ القرارات، ويتعظ مما حصل لهم من مشاكل كبيرة، لأن مُرتكِب الجريمة هو من ستلاحقه المصائب التي لا تقف عند السجن والاجراءات القانونية والاجراءات العشائرية كالدية، وأيضاً التبعات الأخرى من حرق البيوت وتكسيرها وترويع الاطفال وتهجير العائلات، لذلك على الناس تغليب لغة الحوار والعقل على التسرُّع الذي لا يجلب سوى المصائب".