خاص مجلة القدس العدد 327 حزيران 2016-
تحقيق- نادرة سرحان

يستقبلُ المسلمون كل عام ضيفاً عزيزاً تحنُّ له قلوبهم وتنتظره. هو ضيفٌ يشدُّهم إليه قبل قدومه، وتتطلّع الأعين لرؤية هلاله بلهفة. هذا الضيف هو رمضان شهر المرابح بظلاله ونواله، وجماله وجلاله، والذي يعدُّه المسلمون طقساً من طقوسهم السنوية. ولكن لسكان مخيم عين الحلوة طريقتهم الخاصة في استقبال هذا الشهر الكريم، فما إن يقتربَ صوتُ خطواته حتى يباشرَ سكان المخيم بإعداد العدّة لاستقباله بحلّة تليق بسموه. وفي رمضان فإنّ مائدة السحور والفطور قبل أن تكون رمزاً لتناول الطعام هي رمز للإجتماع الصادق على المحبةِ والطاعةِ، بحيث تجتمع العائلة على مائدة واحدة تقيم بعدها فريضة إيمانية، إلّا أن ما لا يمكن تجاهله هو أنه في كل عائلة داخل المخيم يوجد مكان محجوز مسبقاً إما لمغتربٍ أو فقيدٍ أو سجينٍ أو حتى لمتوفٍ خطفه الموت قبل مجيء رمضان.

وبالرغم من كلِّ هذا لا ينفكُّ أهالي عاصمة الشتات من التحضير لرمضان بكل ما أوتوا من قوة. فما إن تدخل أزقة المخيم حتى تسمع أصوات البائعين تتعالى هنا وهناك والعرق يتصبّب من جبينهم، كلٌّ يريد أن يُحصّل رزقه بطريقته، ويطالعك مشهد النساء اللواتي يتهافتن إلى شراء الخضار والفواكه وقد رسمَ التعب على وجناتهن ألف حكاية وحكاية، ومشهد الطفولة ذاك المتمثّل بأطفالٍ يجربون لذة الصيام لأول مرة وكأنهم ملكوا الدنيا وما فيها يلهون هنا وهناك عَلّ ساعة الإفطار تقترب أكثر. هم كلّهم يتناسون ظروفهم الأليمة والوضع الأمني الذي يقف على حافة الهاوية ورشقات الرصاص التي أصبحت أشبهَ بوليمة يوميّة، ليثبتوا أن كل أقوى من كل تلك الظروف القاهرة وأن الشدائد والعقبات التي تواجههم لا تستطيع إضعافهم وإنما تزيد من سعيهم وعزيمتهم. باختصار هم شعبٌ يحب الحياة، شعبٌ يعلّم الحياة. فكيف يستقبل أهالي مخيم عين الحلوة شهر رمضان؟ وهل يجدون فيه ما لا يجدونه في الأيام الأخرى؟
العينُ لا تعلو عن الحاجب
باتَ الجميع يعلم أن مخيم عين الحلوة يعاني الأمرَّين جرّاء سوء الأوضاع الأمنية وسوء البنى التحتية وصولاً الى الظروف المعيشية السيئة التي تزداد ترديّاً لا سيما مع تقليصات الأونروا الجائرة، ما أدى لوجود كمٍّ كبير من الأُسر الفقيرة في المخيم التي تعجز إما عن تأمين وجبة سحور أو وجبة إفطار، فالعين بصيرة واليد قصيرة. وبالرغم من لهفة الناس لقدوم شهر رمضان إلّا أنه يمثّل عبئاً بطريقةِ أو بأخرى على تلك الأسر التي ليس بمقدورها تأمين أبسط مقومات العيش. والرائج في شهر رمضان هو اندفاع الجمعيات الخيرية التي تدعي فعل الخير الى مساعدة الأسر الفقيرة وأصحاب المداخيل المتدنية من خلال توزيع مؤنٍ أو إقامة إفطار في مسجد ما من مساجد المخيم، والمباشرة بتصوير الأشخاص وإظهارهم بصورة مخجلة تبرز عوزهم وحاجتهم الشديدة، ليُصبحوا أمام خيارين، إما القبول بالظهور بتلك الصورة أو أن يكون مصيرهم الفقر، فيُجبَر البعض على قبول تلك المساعدات، فيما يرفض قسمٌ آخر وبشدة ذلك مفضلين الاحتفاظ بكرامتهم وإن ماتوا جوعاً. وكأن شهر رمضان هو فرصة لتلك الجمعيات من أجل تجميل صورتها والترويج لنفسها متناسين أن الصدقة لا تكون بالمنِ والحاق الأذى بالمحتاجين. ولكن هذا النموذج ليس سوى مثال بسيط على سوء تصرف بعض الجهات، فلا يمكن غض البصر عن دور أهل الخير الذين يبادرون إلى مساعدة من هم بحاجة إما بوجبة طعام أو بمبلغٍ صغيرٍ من المال يسد جزءاً بسيطاً من رمق عيشهم، فشهر رمضان بالنسبة لفاعلي الخير بمثابة فرصة لا تعوّض لمد يد العون لإخوانهم وجيرانهم في الإسلام والإنسانية. من هنا تقول الحاجة أم وفيق عبد المقيمة داخل أحياء عين الحلوة :"نحن نعيش في المخيم مثل الإخوة وأعز، ونطمئن على بيت جارنا قبل أن نطمئن على أنفسنا، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصّانا بسابع جار، لذلك سعيت في هذا الشهر على معرفة العائلات التي في عوز لكي أساعدها على قدر استطاعتي من دون أن أشعرها بالمنّة والشفقة، بل أحرص على أن أشعرها بالمحبة والإخوة والجيرة. والطعام الذي أطهوه في منزلي أقوم بتوزيع كمية منه على الفقراء، فلماذا الإسراف والتبذير وهناك من لا يملكون ثمن هذا الطعام؟!".
رمضان باب العمل والرزق معاً
لعلّ رمضان هو فاتحة الخير لأصحاب المحال التجارية، وأصحاب البسطات الصغيرة، ففي رمضان يتوافر للراغبين في العمل فرص رزق جديدة لا تتوافر في الشهور الباقية في السنة كبيع التمر وأنواع مختلفة من العصائر بالإضافة الى بيع الفول والترمس في الفترات المسائية، وما هو أكثر جِدة في المخيم هو بيع أنواع مختلفة من الزهور والنباتات من قِبَل فتى صغير بعمر الورد يشرح للمارة أصل النبتة واسمها وسط مراقبة الناس الوافدين للسوق.
طارق أسعد هو طالب في مدرسة بيسان الثانوية، يعيش في مخيم عين الحلوة، يستغل طارق شهر رمضان لبيع العصائر، يقول طارق في هذا المجال:" أقضي معظم وقتي في السنة وأنا في المدرسة أتعلّم لكي أنال في الآخر شهادة أفرح أهلي بها وطوال هذه المدة يصرف أهلي علي من دون أن يشعروني بتعبهم، ولكني أشعر بهذا خاصة أن هناك إخوة غيري في المنزل، لذلك قررتُ هذا العام أن أبيع العصائر عَلّني أوفّر شيئاً بسيطاً على أهلي وأساعدهم في المصروف، لا سيما أن أخي الأكبر يدرس في تركيا، وأردتُ مساعدته ولو حتى بمبلغ رمزي، لذلك اقنصت الفرصة وقررتُ أن أعتمد على نفسي هذه المرة، وبالرغم من التعب وجدتُ لذة فريدة في البيع في رمضان".
أما أحمد الجشي صاحب محل أحذية في المخيم يجيب بالحديث عن أجواء رمضان" هذه السنة أجواء رمضان كانت أجمل، فقبل رمضان بأيام باشرنا بتزيين الأحياء لأستقبال الشهر بحلة جميلة، أما بالنسبة لحركة البيع فالحمدلله على أفضل ما يرام، فقبل رمضان كانت الحركة عادية جداً ولكن مع قدوم الشهر تبلورت الحركة وازدادت الأرباح، وإن شاء الله الحركة ستزيد أكثر وأكثر في العشر الأواخر من رمضان مع اقتراب العيد، وتبقى الأرزاق على الله".
من جهته يقول رضوان محمد: "بالنسبة لي شهر رمضان هو شهر الخير والعطاء، فأنا أعملُ في بيع الخضراوات على أنواعها، وذلك يعود لأسباب كثيرة، أولها أن أكثر ما يشتريه الناس في هذا الشهر هو الخضراوات إذ يحتاجونها بطريقة شبه يومية، لذلك هي تجارة مربحة، أما السبب الثاني فهو رأس المال، فالعمل الذي أقوم به لا يحتاج الى رأس مال كبير مثل محل ثياب أو ما شابه، بل جلُّ ما أحتاجه هو بسطة أضع عليها الخضراوات التي أريد بيعها.والسبب الأخير الذي فتحت لأجله البسطة هو ملاحظتي لغلاء بعض أصناف الخضراوات لدى التجار، وتردُّد بعض الأشخاص في شرائها، لذلك قرّرتُ في هذا الشهر البيع بأسعار زهيدة تلائم الأسر الفقيرة، فإذا كنت أنا أعمل من أجل حاجتي، هناك من هم أكثر حاجةً مني، ومن يكن بعون الناس، يكن الله بعونه ويرزقُهُ".
إذاً تتباين أجواء رمضان في عاصمة الشتات ما بين الفرح والحزن، وما بين البسمة والدمعة، ولكن ما يجمع الناس هو شعور المحبّة الصادقة. فرمضان هو شهر الخير، ولكي نحكم على عمل بأنه خير، ينبغي أن يكون هذا العمل خيرًا في ذاته، وخيراً في وسيلته، وبقدر الإمكان خيراً في نتيجته. ولا شك أن تهافت الناس في المخيم الى فعل الخير هو دليل واضح على أن الأخ لا يزال يشعر بأخيه مهما اختلفت الظروف، وما هم فاعلوه من خير الآن سيُرَد لهم يوماً من الأيام.