بعد مرورِ مائة عام على وعد بلفور المشؤوم، الذي أعطى فيه مَن لا يملك لمن لا يستحق، يأتي إعلانٌ آخر ممَّن لا يملك لمن لا يستحق، حيثُ أعلن الرّئيس الأمريكي دونالد ترامب، مدينة القدس المحتلّة عاصمةً لـ(إسرائيل). وقد أثار إعلان ترامب، الذي رفضته شعوب العالم الحر كافّةً كونه يُشكِّل اعتداءً سافرًا وقرصنةً لا أخلاقيّةً بحقِّ مدينةٍ عُرِفَت بأصالتها وأصالة تاريخها وأهلها العربيّة والإسلاميّة، موجةَ احتجاجاتٍ كبيرةً على مستوى عربي ودولي، ولا سيما في الساحة الفلسطينيّة المحليّة.

قرارُ ترامب قضى على مسار التسوية
نوَّه مسؤول وزارة الخارجية بغزة، ممثِّل وزير الخارجية الفلسطيني د.رياض المالكي، د.فريد قديح، في حوارٍ مع "القدس"، إلى إنَّ إعلان ترامب كان مخالفًا لمواقف جميع رؤساء الإدارة الأمريكيّة السابقين، والذين كانوا يحرصون على تأجيل القرار الصادر عن الكونغرس الأمريكي منذ سنة 1995م بهذا الشأن كلَّ ستة أشهر، مُعلِّلين ذلك بأنَّ نقل سفارتهم إلى القدس من شأنه أن يضرَّ بالأمن القومي الأمريكي، وأوضحَ: "تلك المواقف كانت منسجمة مع الموقف الدولي، والذي توارثته السياسات الخارجية لجميع دول العالم من مدينة القدس، حتى بات يُعرف بالوضع القائم، وأضحى ذلك الأمر معتقَداً سياسيًّا من المحرّمات تغييره، فحرصت جميع القوى على عدم المساس بهذا الوضع أو السعي لتغييره بأي شكلٍ من الأشكال".
وأضاف المحلِّل السياسي والمختص بالشأن الإسرائيلي د.قديح: "إعلان ترامب كسر هذه القاعدة في سياق فهمه الخاص لإدارة لعبة المصالح، في زمنٍ تميّز بغياب قوى عربيّة وإقليمية مؤثّرة لصالح القضيّة الفلسطينيّة، التي تُعتبرُ قضيّة كلِّ العرب، وأتى القرار تحت وطأة ضغط وتأثير القوى اليمينية الإسرائيليّة المتطرِّفة وما يُمثِّلها من جماعاتِ ضغطٍ مؤثّرة في السياسة الخارجيّة المتَّبعة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، والتي اعتقدت أنَّ واقع النظام العربي والدولي والإقليمي يخدم أطماع الحكومة الإسرائيليّة الحالية".
وبشأن العلاقات الأمريكيّة الفلسطينيّة، قال: "لقد عطَّل هذا القرارُ العلاقات الأمريكيّة الفلسطينيّة، والتي تطوَّرت بشكلٍ تدريجي عبر عقود طويلة من التواصل السياسي والدبلوماسي بين "م.ت.ف" والإدارات الأمريكيّة المتعاقِبة، حتى وصلت الأمور لأن تكون الولايات المتحدة هي الراعي الوحيد لمشوار التسوية السياسيّة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فأتى هذا القرار الخاطئ ليُعطِّل هذه العلاقة ويُسمِّم هذه الأجواء، ما أحدثَ أزمةً حقيقيّةً في العلاقات الأمريكيّة الفلسطينيّة، وألقى بظلاله على مجمَل مكوّنات النظام السياسي الدولي".
أمَّا فيما يخص ردود الفعل العربيّة تجاه الموقف الأمريكي، فرأى د.قديح أنَّها جاءت باهتةً وخجولةً، وأوضح: "يعود ذلك لترهُّل النظام السياسي العربي، وسقوط العديد من أقطابه الرّئيسة في أتون الاقتتال الداخلي، وعدم قدرتها على التأثير في السياسة الإقليمية والدوليّة، وكذلك حتى في السياسة الداخلية لهذه البلدان، في حين بحثت البقية الباقية من أعضاء هذا النظام عن الخلاص الفردي من المصير الذي قد يلحق بها أسوةً بما حدث في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، حتى أضحت على استعداد للتضحية بالقضيّة الفلسطينيّة، مقابل استمرار حكمها والنأي ببلدانها عن الفوضى التي عصفت بالمنطقة العربيّة لعدم قدرتها على إغضاب الولايات المتحدة، وعدم جرأتها على ممارسة لعبة المصالح وَفْقَ الأصول التي تعرفها وتتعامل بها السياسة الدوليّة".
وعن عمليّة التسوية السياسيّة، قال د.قديح: "قرار الرّئيس الأمريكي حول القدس أسدل الستار على عملية التسوية، وعطَّل هذا المسار المعطَل عمليًّا بالأصل منذ الجولة الأخيرة التي كان يرعاها في حينه وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، ولا أعتقدُ أنَّ مسارَ التسوية قد يُفعَّل في هذا العام على أقل تقدير، في حين نشط الفلسطينيّون في السير قدمًا باتّجاه القانون الدولي والكفاح عبر المنظمات الدوليّة في ظلِّ غياب المفاوضات السياسيّة وانسداد أُفق هذا الخيار".
وتابع: "للأسف قرار ترامب فُهِم إسرائيليًّا على أنَّه ضوء أخضر لمزيد من الاستيطان في القدس المحتلة، وفرصة لشرعنة البؤر الاستيطانيّة، الأمر الذي شكَّل لدى الحكومة الإسرائيليّة الاستيطانيّة اليمينيّة المتطرِّفة فرصةً تاريخيّةً لوأد مبدأ حلّ الدولتين الذي كانت تحرص كلُّ القوى الدوليّة بما فيها الإدارة الأمريكيّة السابقة على إبقائه حيًّا".

الوحدة الوطنية سلاح المواجهة الأساسي
عقّب د.فريد قديح على ردة فعل الرّئيس الفلسطيني محمود عبّاس تجاه إعلان ترامب، بقوله: "كانت ردة فعل الرئاسة الفلسطينيّة تتماشى مع نبض الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي الغاضب من موقف الرّئيس الأمريكي. وبرأيي الموقف الفلسطيني هذا سمح للقيادة الفلسطينيّة بالإفلات من صفقة القرن التي كان يُعدّها ترامب، والتي كانت ستمسُّ على ما يبدو بشكلٍ كبير بالثوابت الوطنيّة الفلسطينيّة، وستُشكِّل صفعةَ القرن للقضيّة الفلسطينيّة خاصّةً في خضم الوضع الفلسطيني الداخلي والعربي القائم".
واستطرد: "العرب ليست لديهم الجرأة حاليًّا على العمل وَفْقَ منطق لعبة المصالح من أجل خدمة قضيتهم الأولى وهي القضيّة الفلسطينيّة، والفلسطينيون أسرى لحالة الانقسام الوطني، والمجتمع الدولي أيضاً مشغول بأولويات أخرى، وهذا واقع وجد الفلسطينيون أنفسهم يواجهون به (إسرائيل) عُراةً من دون سند حقيقي يُشكِّل رافعةً لهم في لعبة لا تعرف منطق الحق، بل يسودها منطق المصالح".
واعتبر د.قديح قرار الأمم المتحدة الأخير تحدّيًا حقيقيًّا للموقف الأمريكي، حيث قال: "لقد شكَّل قرار الأمم المتحدة نصرًا معنويًّا للفلسطينيين، لا يمكن التقليل من أهميته، وهو يعتبر تحديًّا حقيقيًّا لموقف الرّئيس ترامب، الأمر الذي قد تكون له تداعياته المستقبلية على نسيج العلاقات الدوليّة، والـ"فيتو" الأمريكي الذي تعوَّدنا عليه هو خطوةٌ طبيعيّةٌ لحماية قرار رأس هرم الإدارة الأمريكيّة، حتى وإن كانت هناك تحفُّظات على هذا القرار لم يجرِ الإعلان عنها لبقية الأقطاب الأمريكيّة التي تُشارك في نسج السياسة الخارجيّة الأمريكيّة".
من جهة أخرى، أشار إلى أنَّ ردة فعل الشارع الفلسطيني شكَّلت قاعدةً لعمل جماهيري متدرِج قد يصل إلى شكلٍ من أشكال الانتفاضة الشعبيّة، لافتًا إلى أنَّ قوى الأمن الإسرائيلي مارست قوة عسكريّة مفرطة في مواجهة الجماهير الفلسطينيّة الغاضبة منتهكةً مبادئ حقوق الإنسان.
وطالب د.قديح في ظلِّ وجود حكومة إسرائيليّة يمينية متطرفة، وواقع عربي عاجز فاقد للقدرة على التأثير، وانهيار فرص التسوية السياسية في المدى الحالي، الفلسطينيين بإعادة توجيه البوصلة الوطنيّة، على أن يكون العمل على رأب وحدة الصف، وضرورة إنهاء الخلافات الداخليّة، وإنجاز ملف المصالحة الوطنيّة، وإعادة رص الصفوف الوطنيّة والتنظيميّة الفلسطينيّة لمواجهة الواقع المستجد من ضمن أولوياتها.
وختم قائلاً: "على القيادات السياسيّة الفلسطينيّة أن تعملَ على تعزيز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وخاصّةً في مدينة القدس المحتلّة، ولهذا تبرز الضرورةٌ المُلحّة لإنجاز ملف المصالحة، ولم الشّمل الفلسطيني، لأنَّ الوحدة الوطنيّة هي أساس القوّة السياسيّة الفلسطينيّة".

ضرورة إنهاء الانقسام وتكثيف المساعي الدبلوماسية لتطوير المواجهة
أوضح أمين عام "جبهة التحرير الفلسطينيّة"، وعضو اللجنة التنفيذية لـ"م.ت.ف"، واصل أبو يوسف أنَّ الولايات المتحدة الأمريكيّة وضعت نفسها في عُزلةٍ أمام إرادة المجتمع الدولي. وقال في تصريحاتٍ خاصّةٍ لـ"القدس": "نحن شاهدنا جميعًا كيف صوَّت مجلس الأمن الدولي بأربعة عشر عضوًا ضدَّ القرار الأمريكي، وكانت الولايات المتحدة وحدها فيه، وبعد ذلك في الجمعية العامّة للأمم المتحدة حيثُ كانت تُصوِّت وحدها مع بعض الدول المجهرية، مقابل تصويت أكثر من ثُلثي الأعضاء (129 دولة) لصالح فلسطين، ممَّا يؤكد مرةً أخرى أنَّ أمريكا عزلت نفسَها بقرارها الذي اتَّخذته أمام المجتمع الدولي، بالإضافة إلى المسيرات الجماهيريّة والفعاليات التي تخرج في كلِّ عواصم العالم ضدَّ القرار الأمريكي، أي بمعنى أنَّه يوجد شبه إجماعٍ دوليٍّ حول رفض القرار الأمريكي".
وشدَّد أبو يوسف في حديثه لـ"القدس" على ضرورةِ التركيز على أمرَين لتطوير مواجهة القرار. الأول، أهميّة استدامة الفعاليات الجماهيريّة والشعبيّة، والتمسُّك بالوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة، وإزالة كلِّ العقبات أمام مسيرة إنهاء الانقسام الفلسطيني من أجل إعادة ترتيب الوضع الداخلي الفلسطيني، لمواجهة هذه القرارات الإجرامية ضدَّ الشعب الفلسطيني وحقوقه، وسياسات الاحتلال التي تحاول فرضَ أجندتها مستفيدةً من هذا الإعلان الأمريكي، بحيثُ تعلن حكومة الاحتلال، كما جرى بالأمس من خلال حزب الليكود الذي يترأس الائتلاف اليميني المتطرِّف، إحكام السيطرة على الضفة الغربية، خاصّةً أنَّ القرار الأمريكي يُعتبَرُ بمنزلة إعطاء ضوء أخضر للاحتلال ليُمارس كلَّ أنواع جرائمه وعدوانه ضدَّ أبناء شعبنا. أمَّا الثاني، فهو مواصلة الجهود والمساعي مع أطراف المجتمع الدولي، مثل مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدوليّة، لمحاكمة الاحتلال على جرائمه، وتمهيد الطريق من أجل الذهاب للاعتراف بدولة فلسطينيّة كاملةِ العضويةِ.
ونوَّه إلى وجوب رفع مستوى الجهود التي تُبذل الآن لمحاصرة الاحتلال، مُبيِّنًا أنَّ اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني لـ"م.ت.ف"، والذي سيلتئم في مدينة رام الله في الرابع والخامس عشر من الشهر الجاري، سيبحث مجموعةً من الآليات المهمّة لمواجهة القرار، من ضمنها مسألة وقف التنسيق مع الاحتلال، بما فيها التنسيق الأمني، والاقتصادي وحتى العلاقات السياسية، أي اتفاق أوسلو بجميع جوانبه، وسحب الاعتراف بالاحتلال، إلى جانب نقاشات وقرارات لها علاقة بالآليات وتعزيز الصمود الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
ورأى أنَّ الموقفين العربي والإسلامي لم يرتقِيا حتى الآن للمستوى المطلوب، مُعلِّقًا: "كان من المفترض التوافق على آلياتٍ عمليةٍ لمحاصرة قرار ترامب كمقاطعة السفارات والبضائع الأمريكيّة، وحتى التلويح بما يتعلَّق بمصالح الولايات المتحدة الأمريكيّة في المنطقة".
وتساءل: "إذا لم تُتَّخَذ قراراتٌ من خلال قمّة عربيّة طارئة مثلاً بهدف مواجهة أزمة القدس، فمتى يمكن أن تكون هناك آليات وفعل؟! أعتقدُ أنَّه لم يجرِ إطلاقاً اتِّخاذ أيّة قرارات ترتقي لمستوى التحدي المطلوب، وبرأيي في حال تمَّ القفز عن موضوع القدس الآن، فستكون الأمّة العربيّة والإسلاميّة في مهب الريح".
ولدى سؤاله عمّا إذا كانت الهبة الشعبيّة القائمة في طريقها نحو انتفاضة شعبيّة تشمل كافة الأراضي الفلسطينيّة، قال: "من الممكن أن يحدث ذلك، خاصةً أنَّ جميع الاحتمالات مفتوحة، وأعتقد أنَّه لا يمكن للشعب الفلسطيني الذي يخرج بدءاً من المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس، وانطلاقاً من كلِّ القرى والمدن الفلسطينيّة وفي الأراضي المحتلة العام 1948م، ليؤكِّد التمسُّك بالقدس عاصمةً أبدية لدولة فلسطين وبالثوابت والحقوق الفلسطينية التي قدَّم في سبيلها آلاف الشهداء والأسرى والجرحى، إلا أن ينال حُريّتهُ واستقلاله".

الوحدة الميادنية والتحلُّل من الاتفاقات مع العدو ضرورة ملحّة
في تعقيبه على قرار "ترامب"، قال عضو المكتب السياسي لـ"الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين" كايد الغول، لـ"القدس": قرارُ الرّئيس الأمريكي لن يُغيِّر من واقع مدينة القدس شيئاً، ولكنَّه على الصعيد السياسي يحمل في طياته ترويجًا لفكرة الاحتلال عن أنَّ القدس عاصمته الأبدية"، مشيراً إلى أنَّ حكومة نتنياهو تسعى لمراكمة مثل هذه الاعترافات.
وأكَّد الغول ضرورة العمل على المستوى الرسمي، عبر البحث الوطني المشترك، واتخاذ خطوات وطنيّة مشتركة لمواجهة قرار الإدارة الأمريكيّة، والعمل على محاصرة هذه السياسة في مختلف الميادين، وعدم تغييب الهيئات القيادية لـ"م.ت.ف" عن المشهد.
وشدّد على أنَّ الرد على إعلان ترامب يتطلَّب الانسحاب من الاتفاقيات الموقَّعة مع الاحتلال، والتي رعتها الإدارة الأمريكيّة، وكذلك سحب الاعتراف بـ(إسرائيل)، مُلمِّحًا إلى أنَّ ردود الفعل العربيّة والدوليّة ستتحدَّد بناءً على هذا الموقف الفلسطيني، وداعيًّا إلى التوصُّل لبرنامجٍ وطنيٍّ تحرُّريٍّ لمجابهة الاحتلال سياسيًّا وشعبيًّا وعسكريًّا.
ورأى أنَّه من الضروري تشكيل وحدةٍ على الأرض، بالإضافة إلى العمل على تطوير النشاطات القائمة وصولاً إلى انتفاضة شعبيّة تفرض على الاحتلال وحلفائه واقع أنَّ الشعب الفلسطيني يسعى للوصول إلى حقوقه الكاملة دون انتقاص. وأضاف: "من الممكن أن تتطوّر الأمور نحو انتفاضة ثالثة، لأنَّ العوامل الموضوعية لهذه الانتفاضة متوفّرة، لكن المهم هو توحُّد القوى في الميدان، وتوحد كافة قطاعات المجتمع بمختلف مكوّناتها وأشكالها، ضمن إطار قيادي موحَّد وتحت شعارات وطنيّة مُتَّفَقٍ عليها".
وطالبَ بإدانة قرار ترامب بشدّة من الشعوب العربيّة وكلِّ مَن يؤمنُ بأحقيّة الشعب الفلسطيني بوطنه وأرضه، مُبيِّناً أنَّ استخدام واشنطن "الفيتو" يُشجِّع الاحتلال على مواصلة احتلال الأرض الفلسطينيّة والعمل على تعميق مشروعه الاستعماري فيها، ويُثبِتُ أنَّ الإدارة الأمريكيّة مارست تضليلاً واسعًا بادّعائها الحرص على الوصول إلى حلٍّ سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
كما نوَّه إلى وجوب التعامل خلال المرحلة الراهنة مع الإدارة الأمريكيّة على اعتبار أنَّها شريك للاحتلال الإسرائيلي في العدوان على الشعب الفلسطيني واحتلال أراضيه، وقطعِ أيِّ تواصل معها، ووقف التعامل معها في أي مشاريع سياسية، مُعلِّلاً ذلك بأنَّ الذي يريدُ أن يرعى عملية السلام ويُقدِّمَ مشروعًا سياسيًّا لا يتَّبع سياسةَ فرضِ الأمر الواقع مثلما فعل ترامب.
وحول خيارات مواجهة القرار، قال الغول: "إنَّ مواجهة قرارات الإدارة الأمريكيّة لا تكون إلّا بوحدة فلسطينيّة، وموقف سياسي واضح يؤكِّد أنَّ الفلسطينيين لن يقبلوا بالمساس بمدينة القدس"، مُطالبًا بتبنّي تحالفاتٍ ومواقفَ سياسيّةٍ في أوروبا وغيرها، لمحاصرة السياسة الأمريكيّة، وإسناد الفلسطينيين في مواجهتها، ومواصلة الفعاليّات على مختلَف الصُّعد لإفشال أيِّ قرار أمريكي يمسّ بمكانة القدس.
وفيما يخصُّ موقف الرئاسة الفلسطينيّة من إعلان ترامب، قال: "إنَّ موقف الرّئيس يمكن البناء عليه إذا ما تمَّت ترجمته على الأرض، فنحن لسنا بحاجة لمزيد من الاختبارات لسياسة الاحتلال العدوانية، وبالتالي علينا أن نُترجِم تهديد الرّئيس محمود عبّاس بسحبِ الاعتراف بـ(إسرائيل) ليكون هناك قدر أكبر من الجديّة في التعامل، فيجب أن نخرج بقرار صريح مفاده أنَّنا في حِلٍّ من الاتفاقات التي وُقِّعَت في الماضي وما ترتّب عليها من التزامات".
وتابع: "علينا بذل قصارى جهدنا لمحاصرة السياسات الإسرائيليّة والأمريكيّة بطريقة واضحة في إدارة الصراع وملف القضيّة الفلسطينيّة"، داعيًا إلى عدم التطرُّق للحديث عن أيّة مفاوضات مع (إسرائيل)، وإنَّما إلى تبني المطلب الذي أعلنه الرّئيس عبّاس في خطابه خلال القمّة الإسلاميّة التي انعقدت في مدينة اسطنبول التركية، والقاضي بنقل القضيّة إلى الأمم المتحدة عبر دعوتها لعقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ كاملِ الصلاحياتِ للبحث في آليات تنفيذ قراراتها المتعلّقة بحقَي العودة وتقرير المصير للشّعب والدولة الفلسطينيّة.

نحو انتفاضاتٍ شعبيّةٍ سِلميةٍ بعيدًا عن السِّلاح
وفي ذات السياق، عقَّب عضو المكتب السياسي لـ"حزب الشعب" طلعت الصفدي في حديث لـ"الـقدس" على إعلان ترامب بقوله: "واضح أنَّ التعدي على حقوق الشعب الفلسطيني لم يبدأ الآن، فالولايات المتحدة الأمريكيّة تحاول منذ أكثر من خمسين عامًا أن تكون المدافع عن الاحتلال الإسرائيلي بشكلٍ أو بآخر، وأن تُقدِّم له كلَّ الدعم المادي والعسكري والاستخباراتي والاقتصادي، وكلَّ ما يتعلَّق بهذه القضايا، وأيضاً في المحافل الدوليّة، وتسعى لفرض واقعٍ جديدٍ علينا، بالإضافة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة".
وأضاف الصفدي: "أخطر ما يكمُن هنا أنَّ البعض كان يتوقّع من ترامب أن يطرح صفقةَ القرن، وإذا بها لعنةٌ من اللّعنات التي تلاحق الشعب الفلسطيني وتفتك به، وتهدف إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة وإسقاط حقوق الشعب الفلسطيني، وكنا نتوقَّع أن يكون الاعتراف الأمريكي بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال ومحاولة نقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة بدايةً فقط، حيث تبعتها محاولة ضمِّ الضفة الغربية أو المستوطنات التي تمَّت إقامتها على الأراضي الفلسطينيّة المحتلة العام 1967، وهذا ما أكَّده حزب الليكود الإسرائيلي بتأييده ومطالباته بضمِّ هذه المستوطنات، وبالتالي المؤامرةُ ما زالت متواصلةً بحقِّ الشعب والقضيّة الفلسطينيّة".
وتابع: "الشعب الفلسطيني عبر الحراك الوطني المتواصل والهبّة الجماهيريّة، والبُعدَين السياسي والدبلوماسي العالميَّين، أكَّد أنَّ هذه الخطوة التي أقدمَ عليها ترامب هي خطوةٌ معاديةٌ لحقوق الشعب الفلسطيني، ومعاديةٌ لكلِّ قرارات الشرعية الدوليّة التي أكَّدتها قرارات مجلس الأمن والجمعية العامّة، فنحن نقول إنَّ المعركة ما زالت قائمةً، وإنَّها تحتاج إلى مزيدٍ من العمل رغم أنَّنا نجحنا بشكلٍ كبير في عزل الولايات المتحدة و(إسرائيل)، إلا أنَّ هذا يُعدُّ مقدِّمةً لتنفيذ العديد من الأمور بما فيها ترتيب الوضع الداخلي وتوطيد كافة الجهود، وتمكين الجبهة الداخلية، وإنهاء حالة الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنيّة، حتى يتمَّ التوافق ما بين العمل الدبلوماسي وما بين الهبّة الجماهيريّة التي تقودها جماهيرنا الفلسطينيّة، والتوافق على برنامج كفاحي نستطيع من خلاله أن نواجه الإستراتيجية الإسرائيليّة التي ترتكز على قاعدة نهب وسرقة الأرض وإقامة المستوطنات على اعتبار أنَّ من يمتلك الأرض يمتلك الدولة، وملاحقة أبناء شعبنا الفلسطيني وممارسة المجازر الإرهابية ضد مكونات المجتمع الفلسطيني كافّةً لفرض خيار الهجرة عليه، ولكنَّنا نقول إنَّ المعركة مستمرة، ونحن باقون على هذه الأرض، ولا يمكن في أي حالٍ من الأحوال مهما اشتدَّ العنف الإسرائيلي والتخاذل العربي والإرهاب الأمريكي أن نرحل".
ودعا إلى تحويل الحراك الجماهيري إلى انتفاضاتٍ جماهيريّةٍ شعبيّةٍ سِلميةٍ بعيدةٍ عن استخدام العنف والسلاح، مُوضحًا: "عندما نستخدم السلاح نكون كأنَّنا نلعب في مربّع الاحتلال الإسرائيلي الذي يودُّ بشكلٍ أو بآخر أن يجتذبنا إليه حتى يدّعي أنَّنا إرهابيون، وبالتالي نحن نؤكِّد أنَّنا أصحابُ حقٍّ، وعلينا أن نُؤدّي دورًا كبيرًا في فضحِ السياسة الإسرائيليّة والأمريكيّة، من خلال كسبِ تضامنِ كلِّ شعوب ودول العالم، والتي أكَّدت معظمها رفضَ خطّة ترامب والاحتلال الإسرائيلي".
وطالبَ الشعوب والأنظمة العربيّة بالتحرُّك ووقف ورفض التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وبأن تُقدِّم كافة الإمكانيات والدعم المالي والمعنوي للشعب الفلسطيني من أجل تعزيز صموده على الأرض، مُتسائلاً: "كيف للشعب أن يصمد على أرضه وخصوصاً أهالي القدس الذين يتعرَّضون لكلّ أشكال العنف والإرهاب في حياتهم اليومية بغير ذلك؟ نحن نقول إنَّه على العالم العربي والإسلامي وخصوصًا الدول العربيّة التي ما زال جزءٌ كبيرٌ منها يتخاذل ويسعى للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي منذ فترات طويلة أن تتحمَّل مسؤولياتها تجاه الشعب والقضيّة الفلسطينيّة".
وبخصوص الأبواق الداعية لإيجاد قيادة بديلةٍ للشعب الفلسطيني، قال الغول: "لن تكون هناك أي قيادة بديلة. مَن هي القيادة البديلة التي يمكن أن تحل محلَّ القيادة الحالية التي تواجه الاحتلال الإسرائيلي والتي تتعرّض حتى للاغتيال؟! نحن نُؤكِّد أنَّ شعبنا الفلسطيني لديه من القدرة ما يجعله يوجد واقعًا جديدًا، لكن بخصوص الحديث عن بديل لـ"م.ت.ف" والقيادة، نحن نقول: إنَّه لا يوجد في الساحة الفلسطينيّة بديل عنهما، وهناك العديد من القوى الامبريالية العربيّة التي لا يُعجبها موقف "م.ت.ف" والقيادة الفلسطينيّة، والتي على استهدافها بشكلٍ أو بآخر كما حاولت أن تفعل مع الشهيد ياسر عرفات سابقاً".

موجةُ غضبٍ تجتاحُ فلسطين ودول العالم رفضًا لقرار ترامب
أثارَ قرارُ ترامب موجةَ غضبٍ شعبيّةً واسعةً في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، راح ضحيتها بحسب آخر الإحصائيات الرّسميّة الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينيّة، 16 شهيدًا، 13 منهم في قطاع غزّة، بينهم طفل ومُقعَد مبتور القدمين إثر قصف إسرائيلي، و3 من الضفة الغربية المحتلة بينهم مُسِّنةٌ.
وكانت وزارة الصحة الفلسطينيّة قد صرَّحت بأنَّ قوات الاحتلال الإسرائيلي تعمَدُ إلى استخدام القوة المفرطة في التّصدي للتظاهرات الشعبيّة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، من خلال إطلاق الرصاص الحي والمتفجِّر والمعدني المغلَّف بالمطاط، وقنابل الغاز في مواجهة الشبّان الفلسطينيين العُزّل، إضافةً إلى انتهاجها سياسة القنص المباشر، ممَّا أدى لارتفاع عدد الشهداء وسقوط أكثر من 731 جريحاً في قطاع غزَّة وحده، وما يزيد عن 3000 مصاب في محافظات الوطن الشماليّة.
وشهدت عدّة عواصم عربيّة وغربية، منذ إعلان ترامب، موجةَ احتجاجاتٍ واسعةٍ طالبت بإغلاق الممثِّليات الأمريكيّة فيها، كانت أبرزها في العاصمة الأردنية عمان، والتي طالب خلالها المتظاهرون بتجميد العلاقات الدبلوماسية مع (إسرائيل) وإغلاق السفارة وسحب سفيرهم من تل أبيب، في حين خرج آلاف المتظاهرون في تونس ضدَّ قرار ترامب، رافعين الأعلام الفلسطينيّة ومؤكِّدين عروبة وإسلاميّة مدينة القدس، وكذلك الأمر في جمهورية مصر العربيّة التي طالب المتظاهرون فيها، الرّئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بإلغاء اتفاقية السلام الموقَّعة مع الاحتلال الإسرائيلي ووقف العلاقات الدبلوماسية، بالإضافة إلى تظاهرات واسعة خرجت في عدد من البلدان الإسلاميّة كتركيا وباكستان، وتظاهرات أخرى في عدد من البلدان الأوروبية، أهمها ألمانيا وبلجيكا واليونان والسويد والنمسا وإسبانيا وإيطاليا.
يبدو أنَّ شيئاً لم يُفلِح بإقناع رجل الأعمال الأمريكي المُتهوّر "ترامب"، الذي لا يعرف سوى منطق المال والقوة، بأنَّ مدينة القدس المحتلّة والمقدَّسات الإسلاميّة فيها هي خطٌّ أحمر لا يمكن تجاوزه بالنسبة للفلسطينيين. فإن غفلت شعوب العالم عن الحق الفلسطيني التاريخي بهذه الأرض، أو نامت أعين الحُكّام العرب عن عروبة فلسطين والقدس، وعن إسلاميّة المُقدسات فيها، ستبقى عين الشيخ والأب والشاب والطفل والمرأة الفلسطينيّة حارسةً ساهرةً لا تنام من أجل القدس والمقدّسات.

خاص مجلة القدس/ الاصدار السنوي العدد 344 كانون الثاني 2018
غزة- فلسطين/ تحقيق: منال خميس