خاص مجلة القدس/ الاصدار السنوي العدد 344 كانون الثاني 2018
حـوار: ولاء رشيد

تحلُّ الذكرى الثالثة والخمسين لانطلاقة حركة "فتح" وأسئلةٌ كثيرةٌ تُطرَح حول واقع ومستقبل الحركة والقضيّة الفلسطينية. فمن قرار ترامب الجائر بحقِّ القدس وتداعياته مُتَّسعة النطاق، مرورًا بمعضلة اللجوء وحماية المخيَّمات، والدرب الوعر الذي ما زالت تشقُّه حركة "فتح" بهمَّة قادتها وأبنائها، مُستجدَّات وتحدِّيات عدّة تعصف بالواقع الفلسطيني في الوطن، وفي الشتات، وتحديدًا في لبنان، وتفرِض على القيادة الفلسطينية وحركة "فتح" انتهاجَ أنجعِ السُّبُل لمواجهتِها. وللإحاطة بتفاصيل هذه القضايا وغيرها التقت مجلّة "القدس" عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"، أمين سر فصائل "م.ت.ف" وحركة "فتح" في لبنان فتحي أبو العردات، فكان الحوار التالي.

ونحن على أبواب الذكرى الـ53 للانطلاقة كيف تقرؤون واقع "فتح" اليوم؟ وهل ما زالت قادرةً على مواجهة التحدِّيات؟
بدايةً نُحَيّي مَن كان لهُم الفضل بانطلاقة حركة "فتح" واستمرارها وتحوُّلها إلى ثورة نضالية وإلى دولةٍ لا بدَّ أن تتجسَّد على أرض الوطن وعاصمتها القدس إن شاء الله، بدءًا بالشهيد الرّمز ياسر عرفات وشهداء اللجنة المركزية وشهداء "فتح" ومناضليها ومقاتليها، وشهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة، وكلَّ مَن ارتقى شهيدًا على درب فلسطين. لهؤلاء جميعًا تحيّة من القلب، من مخيّمات الشتات في لبنان، التي بذلت التضحيات، وتحمَّلت أعباء النضال الوطني الفلسطيني، وما زالت على العهد. والتحية أيضًا للأسرى الأبطال في معتقلات الاحتلال الصهيوني الذين شكَّلوا بتحديهم وصمودهم مدرسةً للتضحيات والنضال.
وبعد مضي 53 عامًا على انطلاقتها، نُؤكِّد أنَّ أهميّة حركة "فتح" تبرز ليس فقط لأنَّها الحركة الأطول عمرًا بعد الحرب العالمية الثانية، والأكثر شهداءً، والأعمق جذورًا، وإنَّما لأنَّ الجميع سواء أكانوا أفرادًا فلسطينيين وعربًا أم أحزابًا وجماعاتٍ يشعرون أنَّ لهم في الحركة حصةً بقدر أو بآخر؛ ومن هنا سُمِّيَت "فتح" حركةَ الشعبِ الفلسطينيِّ لا مجرَّدَ حركةٍ فلسطينية، وهي باقيةٌ ومستمرّةٌ لأنَّها تحملُ أعدل وأقدس قضية في هذا العصر، قضية الشعب الفلسطيني الذي اقتُلِعَ وهُجِّرَ من أرضه. واليوم بعد هذا المخاض النضالي الطويل، ومرورها بالمحطات الخطيرة والمعقَّدة في ظلِّ اشتعال المنطقة بالحروب، فإنَّ "فتح" بالتأكيد ما زالت قادرةً على تحمُّل كلِّ الأعباء والمسؤوليات لأنَّ هذه الحركة العظيمة بقيت مستمرّةً رغم كلِّ محاولات النيل منها، ولا تزال المؤهَّلة لقيادة المشروع الوطني الفلسطيني باتّجاه انتزاع حقوق شعبنا الثابتة والمشروعة وغير القابلة للتصرُّف. وكما تخطَّينا الظروف الصعبة في السابق، فإنَّنا سنتخطَّى معًا الظروف الأصعب التي نُواجهها اليوم بإذن الله.
تحييد المخيَّمات عن أتون الصراعات الدائرة في المنطقة عمومًا وفي لبنان خاصّةً معادلةٌ صعبةٌ، فكيف تقومون بذلك؟ وما هي أبرز الصعوبات التي تواجهكم؟

المخيَّمات كانت وما زالت في قلب الاستهداف، وقد تأثَّر وضعها بالحرائق المشتعلة في العالم العربي، ورغم صعوبة وخطورة الظروف، إلّا أنَّنا بذلنا جهدنا لمنع جرِّ المخيَّمات إلى الصراعات والتجاذبات التي كانت سائدةً نتيجة تأثُّر لبنان بظروف المنطقة، عبر عدّة خطوات. فأولاً، وحَّدنا مكوّنات العمل الفلسطيني، وكنا نتمنَّى أن تكون هذه الوحدة في إطار "م.ف.ف" الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولكن لخصوصيةِ الوضع الفلسطيني والتباينات القائمة ارتأينا تشكيلَ إطارٍ وطنيٍّ موحَّدٍ، وهو ليس بديلاً عن "م.ت.ف" أو إطارًا موازيًا، وإنَّما هو إطارٌ جامعٌ لتوحيد قرار وموقف وعمل القيادة الفلسطينية بكلِّ مكوِّناتها. أمَّا الخطوة الثانية، فتمثَّلت بالحوار مع إخوتنا اللبنانيين، والذي أفضى إلى مزيدٍ من التنسيق والتعاون المشترَك على جميع المستويات، وإلى تطوير العلاقات الفلسطينية اللبنانية، بتوجيهاتٍ من القيادة الفلسطينية وعلى رأسها السيّد الرئيس محمود عبّاس الذي زارَ لبنان عدة مرات، وشكَّلت زياراته جسرًا للتواصل اللبناني الفلسطيني والتشاور في إطار تعزيز العلاقات ومواجهة التحديات المشتركة بموقفٍ سياسي وميداني موحَّد. وبالتالي عبر الوحدة الوطنية الفلسطينية، والعلاقات الفلسطينية اللبنانية المميّزة واجهنا التحديات، ولكنَّنا خسرنا قبل ذلك مخيَّم نهر البارد، وكان مخيَّم عين الحلوة على لائحة المخيَّمات التي تشهد توترات، ورغم الأحداث المؤسفة التي شهدها، لكنَّنا نجحنا في تجنيب المخيَّم كأس التهجير وألا يكون شهيدًا، عبر التنسيق والتعاون مع الفعاليات والقوى اللبنانية في صيدا باعتبار مخيَّم عين الحلوة جزءًا من المدينة، وكذلك الأمر بالنسبة لمخيّمات بيروت التي شهدت مرحلةً حرجةً، حيثُ شكَّلنا مع إخوتنا اللبنانيين لجانًا مشتركةً لتجاوز ما كان يُحضَّر لمخيمات في إطار الفتنة السنية الشيعية التي أطلَّت برأسها، والتطرُّف والتعصُّب الذي كان قائمًا نتيجة ما يجري حولنا. وقد أثمر التزامنا بالوثيقة التي وقَّعناها جميعًا كفصائل فلسطينية، والتي تركَّزت بنودها على حماية الوجود الفلسطيني، وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز العلاقات الفلسطينية اللبنانية وعدم السماح بأن تكون المخيَّمات ممرًّا أو مستقرًّا لأيِّ فرد يستهدفُ أمنَ واستقرارَ وسِلمَ المخيَّمات وجوارها، بمقولة ردَّدها إخوتنا اللبنانيون، وهي أنّ الفلسطينيين في لبنان هُم اليوم عاملٌ مهمٌّ من عوامل الأمن والاستقرار والسِّلم الأهلي.

كشفَ مشروع "التعداد العام للسكان والمساكن الفلسطينية" أنَّ عدد الفلسطينيين في لبنان
لا يتجاوز الـ175,000، فهل فاجأكم الرقم؟ وبرأيكم ما هي دلالات نتائج الإحصاء وانعكاساتها المحتمَلة على وضع اللاجئين؟
أولاً نشكر كلَّ مَن ساهم بإنجاز هذا المشروع، ونُنوِّه بجهود "مجموعة العمل حول قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان" المشكَّلة من الكتل والأحزاب اللبنانية الرئيسة في المجلس النيابي، برعاية "لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني" ورئيسها د.حسن منيمنة، ورئيس الحكومة اللبنانية سعدالدين الحريري، والتي عقدت حواراتٍ ومشاوراتٍ على مدى عامَين، نتجَ عنها إصدار وثيقة مشتركة نحو قراءة واضحة لواقع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وأصدرت كُتيِّبًا في هذا الإطار شمل عدة نقاط، من بينها تعريف اللاجئ الفلسطيني عبر إجراء إحصاء عام الفلسطينيين في لبنان، جرى تنفيذه في 12 مخيَّمًا و156 تجمُّعًا فلسطينيًّا بالإضافة للقرى والمدن اللبنانية، وشمل أعداد الأفراد والمساكن، والواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والتعليمي للاجئين.
قد تكون الفرق الميدانيّة لم تصل لبعض العائلات والأفراد، لكنَّ العدد الذي أُعلِنَ عنه منطقي، ولم نُفاجَأ به، لأنَّنا نعيش بين أهلنا، ونعرف أنَّ المخيَّمات تشهد نزفًا سُكانيًّا بحكم تردّي الواقع الاقتصادي والحياتي والأمني في المخيَّمات، علاوةً على ندرة فرص العمل للخريجين، والتضييق على الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية والاجتماعية، مع تقديرنا لما تُقدِّمه "الأونروا" والدولة اللبنانية، وبالتالي هذه الظروف غير المستقرَّة أوجدت لدى شعبنا حالةً من القلق على المصير، والإنسان بطبعه يبحث عن الأمان والاستقرار، والفلسطيني وإن كان صاحبَ قضية ولكنَّه يبقى إنسانًا، وهذا ما دفع بالعديد من أبناء شعبنا في لبنان لبيع بيوتهم وممتلكاتهم والهجرة بحثًا عن واقع أفضل، علمًا أنَّ معظم مَن هاجروا مُشتَّتون في دول العالم ويعيشون ظروفًا صعبةً.
وبرأيي معرفة العدد الفعلي للاجئين إنجازٌ مهم، إذ تخلَّصنا من قضية الأرقام الوهمية الكبيرة التي كانت تستخدمها جهات سياسيّة بهدف التخويف والتهويل من عدد الفلسطينيين، ولكنَّ الأهم هو الالتفات إلى تحسين الواقع الحياتي اللاجئين الفلسطينيين، وتقع مسؤولية ذلك على الدولة اللبنانية، كما قال الإخوة اللبنانيون ورئيس الحكومة اللبنانية الذي أكَّد ضرورةَ اتِّخاذ الدولة اللبنانية موقفًا جديًّا بالنسبة لحقوق الفلسطينيين الإنسانية والاجتماعية، وبتصوّري ستتسارع في الأيام القادمة عملية بحث هذا الموضوع.

إثر إعلان نتائج التعداد، لمَّح البعض إلى أنَّ انخفاض عدد الفلسطينيين قد يُعيدُ فتحَ موضوع التوطين، فما ردُّكم على ذلك؟
موضوع التوطين مرفوضٌ فلسطينيًّا ولبنانيًّا، ولا داعي لأيِّ مخاوف أو كلام يُثار حول ذلك، فقد أقرَّ الدستور اللبناني في مقدِّمته عدم مشروعيّة التوطين، وموقفنا كفلسطينيين واضح- إن كان على مستوى القيادة الفلسطينية أو الفصائل أو في المجالس الوطنية- وهو الرفض القاطع للتوطين، لأنَّ فلسطين هي وطننا الوحيد، والمشروع مرفوض من طرفنا أصلاً منذُ طرحه في الخمسينات، والرئيس محمود عبّاس أكَّد ويؤكِّد هذا الموقف بشكلٍ دائم. وبرأيي التركيز يجب أن يَنصَبَّ اليوم على عملية "تهجير" الفلسطينيين من المخيَّمات، خاصّةً أنَّ بعض المؤسسات العاملة في الأوساط الشبابية تُحرِّض الشباب على التهجير، وهنا ينبغي التمييز بين "التهجير" و"الهجرة"، فالأخيرة موجودة في كلِّ دول العالم، أمَّا مشروع التهجير فيهدف لنشر اللاجئين الفلسطينيين وتشتيتهم في دول العالم بدون إيجاد حلٍّ لقضيتنا، وأن يطرق الناس أبواب السفارات بحثًا عن الأمن والاستقرار في بلاد الاغتراب، ولا تنتهي عندها معاناة اللاجئين إذ يصطدمون بواقع مأساوي في الدول التي هاجروا إليها. وتبرز أهمية إيقاف هذا النزف من المخيَّمات كونه جزءًا من المشروع الجهنمي الخبيث الذي يُحاك ضدَّ الشعب الفلسطيني وتقوده أمريكا و(إسرائيل)، وذلك عبر تحسين وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

برأيكم كيف يمكن مواجهة قرار ترامب على المستوى الدبلوماسي والسياسي والشعبي؟ وما تقييمكم للمواقف العربية والإسلامية والدولية تجاه القرار؟
هناك ثلاث دوائر يجب العمل عليها لمواجهة القرار، وهي: الدائرة الفلسطينية، والدائرة العربية والإسلامية، والدائرة الدولية. ففي الدائرة الأولى، نرى أنَّ شعبنا هبَّ منذ إعلان ترامب، والمجلس الثوري والقيادة الفلسطينية أعلنت ثورة الغضب، وحدَّدت مجموعةً نقاط جاءت على لسان الرئيس محمود عبّاس الذي أكَّد أنَّنا نُدين هذا القرار ونعتبره كأنَّه لم يكن، وشدَّد على أنَّ القرار معزول لأنَّه خارج إطار القانون وقرارات الشرعية الدولية، ودعا لمواجهته عبر إنجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية، والتوافق على إستراتيجية جديدة، ومن هنا كانت دعوته لعقد اجتماعٍ للمجلس المركزي، والذي سيُعقَد منتصف كانون الثاني 2018، وقد وُجِّهت دعوات المشاركة لجميع الفصائل الفلسطينية، لتوحيد الموقف الفلسطيني. ويندرج ضمن هذه الدائرة العمل الميداني الموحَّد لمواجهة الإسرائيليين في إطار "ثورة غضب"، كما أسماها المجلس الثوري، والذي دعا إلى تشكيل اللجان والقيادات الميدانية لقيادة ثورة الغضب، وهو ما بدأ بالفعل.
وعلى المستوى السياسي، رفعنا شكوى لمجلس الأمن بتوجيهات من السيّد الرئيس للخارجية الفلسطينية وللسلك الدبلوماسي، وقد أصدر مجلس الأمن بيانًا بموافقة 14 دولة من أصل 15 على مشروع القرار الرافض لإعلان ترامب مقابل اعتراض أمريكا التي بقيت وحدها ممَّا يدل على خلو القرار الأمريكي من أي شرعية دولية، وسنُقدِّم شكوى ثانية لإصدار قرار هذه المرّة. وفي الشقِّ السياسي، فنحن قد تحرَّرنا وتحلَّلنا من كلِّ التزاماتنا مع أمريكا، وأوقفنا اتصالاتنا معها، ورفضنا استقبالَ نائب رئيسها وقنصلها لأنَّها لم تعد وسيطًا نزيهًا للسلام، وبالتالي كانت قرارات القيادة الفلسطينية جريئةً وجذريةً وصارمةً، وأيُّ كلامٍ بخلاف ذلك يكون بهدف التعمية، وفي الوقت الذي يجب أن تتوحَّد الجهود لإسقاط قرار ترامب، من المعيب جدًا تحوُّل اهتمام البعض للتهجُّم على السلطة.
توجُّهنا اليوم هو نحو جهدٍ متكامل بين العمل السياسي والدبلوماسي من جهة، والعمل الميداني المتجسِّد بالانتفاضة المتدرِّجة باستخدام كلِّ أشكال النضال ضد الاحتلال من الجهة الأخرى، لجعل الاحتلال مُكلفًا، خاصّةً أنَّ الأمم المتحدة تكفل للشعوب الواقعة تحت الاحتلال حقَّ المقاومة بكلِّ أشكالها بما فيها المسلَّحة، ولكن في الوقت ذاته علينا أن نترك لأهلنا في الداخل تقدير الشكل المناسب للمواجهة، إذ ليست كلُّ تجربةٍ قابلةً للإسقاط في مكان وزمان آخر، وهذا تُقرِّره القيادة والفصائل الفلسطينية بحيث تتبنَّى إستراتيجية نضاليّة موحَّدة لمقاومة الاحتلال بطريقة مؤثِّرة ومُوجِعة. وكما تعلمون فحتى الصمود مقاومة، بل هو أرقى أشكال المقاومة في ظلِّ محاولات التهجير، لذا أهلنا اليوم متمسِّكون بأرضَهُم، والقيادة والشعب الفلسطيني يؤدون دورهم على أكمل وجه، ولا يحقُّ لأحد المزاودة عليهم.
أمَّا بالنسبة للدائرة الثانية، فبرأيي إجماعُ الدول العربية والإسلامية على إدانة واستنكار القرار هو الحد الأدنى من واجبهم. لقد استمعنا خلال مؤتمر وزراء الخارجية العرب لجميع الكلمات التي أكّدت رفض القرار، وكانت نبرة بعضها أعلى من الأخرى، وفي هذا السياق أُثمِّن مواقف الإخوة اللبنانيين المشرِّفة، وأخصُّ بالذكر وزير الخارجية جبران باسيل الذي كان له موقف ممتاز، وكذلك الأمر بالنسبة لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، ورئيس الحكومة سعدالدين الحريري الذي أعطى توجيهاته بإضاءة السراي الحكومي وكاتدرائية مارجرجس وصخرة الروشة ومسجد الأمين بصُوَرٍ للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة والعَلم الفلسطيني، ورئيس مجلس النواب نبيه بري الذي عقدَ أول جلسة برلمانية من أجل القدس، وإخواننا اللبنانيين الذين أحيوا الميلاد مرتدين الكوفية الفلسطينية، لقد أثلجت صدورنا مشاهدة الأحزاب اللبنانية على اختلافها تجتمع على قضيّة فلسطين وتُنظِّم وتشارك في الفعاليات الداعمة للقدس، والأمر نفسه في عددٍ من الدول العربية.
ولكن صحيحٌ أنَّ هذه المواقف جيّدة، بَيْدَ أنَّها لا تكفي، إذ يجب اتِّخاذ إجراءاتٍ مؤثّرةٍ. فجنوب إفريقيا، قرَّرت تخفيض تمثيلها الدبلوماسي في (إسرائيل)، وعلى الدول العربية والإسلامية أن تحذو حذوها، فهي الأَوْلَى باتِّخاذ هكذا خطوة، وأن تُعيد النظر في علاقاتها الدبلوماسية مع (إسرائيل) وأمريكا خاصّةً أنَّ أمريكا اليوم لا تفهم إلّا لغةَ المصالح. لذا يجب تطوير الموقف العربي بالتمهيد لقمَّة عربية تُتَّخذ فيها قرارات جذرية ومؤثِّرة تُشعِر أمريكا بأنَّ قضية القدس دونها كل شيء. أيضًا في القمّة الإسلامية التي عُقِدَت في تركيا بحضور 57 دولة، استمعنا لموقف الرئيس عبّاس الذي كان قويًّا وجذريًّا بإعلان مقاطعة أمريكا ودعوته الدول لمراجعة علاقاتها معها، واستمعنا للكلمات التي اقتصرت على الإدانة والاستنكار للقرار، وكنا نتمنَّى أن يتَّخذ المؤتمر إجراءاتٍ صارمةً ويُشكِّل لجنةً خاصّةً تبقى اجتماعاتُها مفتوحةً لمتابعة هذا القرار الخطير وتبعاته الأخطر على الوضع الفلسطيني، وعلى الوضع العربي أيضًا، لأنَّ (إسرائيل) اليوم كما قالَ الرئيس ليس لها حدود، ولا نعرف أين تسعى لتكريس وجودها وفرض أمرها.
وفي الدائرة الدولية، لاحظنا أنَّ فلسطين مازال لديها الكثير من الأصدقاء الذين يناصرونها، وحتى مَن كانوا حلفاء لأمريكا وقفوا ضد الأخيرة كبريطانيا وغيرها، ومواقف فرنسا ودول أميركا اللاتينية كانت ممتازة، لذا يجب تطوير مواقف هذه الدول والتواصل والتنسيق معها لئلا تضغط (إسرائيل) عليها للتراجع عن مواقفها، علمًا أنَّ التصويت الأخير في الأمم المتحدة أظهر أنَّ كثيرًا من الدول تمسَّكت بمواقفها رغم تهديدات ترامب لأنَّها ذات مبادئ، وقد مثَّل القرار المُتَّخَذ انتصارًا وإنجازًا كبيرًا للسياسة وللجهود الدبلوماسية الفلسطينية، وأُحَيْي مندوب فنزويلا الذي قال لترامب: (العالم ليس للبيع، وقرار ترامب أعاد التوتر والحرب إلى المنطقة، ويُشكِّل تهديدًا للأمن والسلام في العالم).
وبالتالي المطلوب اليوم لمواجهة هذا القرار الجائر هو التكامل بين الدوائر الثلاث، ودعم صمود الفلسطينيين والالتفات إلى قضاياهم. ولأنَّنا أصحاب حق، فيجب أن تكون خطاباتنا اليوم حازمة، ولن نقبل بحقوقنا إلّا كاملةً، فهذا ما تعلَّمناهُ في حركة "فتح"، وسنواصلُ النضال حتى انتزاعها، وفاءً منا لكلِّ مَن قدَّم التضحيات درب فلسطين.
وأخيرًا أقول إنَّ أحلك فترات الليل ظلامًا هي التي تسبق بزوغ الفجر، وشعبنا الذي يُجدِّد اليوم الانطلاقة بروحها وثوابتها يقولُ للاحتلال إنَّ هذه الأرض لنا، ويُؤكِّد أنَّ القدس عربية إسلامية مسيحية، وركن من أركان هُويّتنا العربية الإسلامية، ونحن على ثقة أنَّنا بنضالِنا وبتضحياتِنا وبوقوفِ أحرار العالم المخلصين معنا سنُسقِط قرار ترامب الجائر وكلَّ المؤامرات المحاكَة ضدَّ شعبنا، وسنُقيم دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس، و(سيرفعُ شبلٌ من أشبالنا أو زهرةٌ من زهراتنا عَلم فلسطين فوق مآذن وكنائس وأسوار القدس)، كما قال الرئيس الشهيد ياسر عرفات، في إشارةٍ إلى أنَّ ثورتنا مستمرةٌ من جيل إلى جيل، وستسقُط مقولةٌ (الكبار يموتون والصغار ينسون)، وإن شاء الله سيكون هذا اليوم قريبًا.