تحقيق: د.سامي إبراهيم/ خاص مجلة "القدس" العدد 342 تشرين الاول 2017

"سيرفعُ شبلٌ من أشبالنا أو زهرةٌ من زهراتنا عَلم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس"، هي العبارة التاريخية التي أطلقها الرئيس الشهيد ياسر عرفات ذات يوم للدلالة على أهميّة دور الأطفال والشباب في الثورة الفلسطينية.
ومنذ انطلاقة الرصاصة الأولى، أولت القيادات الفلسطينية أهميًّة خاصّةً للحياة الكشفية باعتبارها اللُّبنة الأولى في تأسيس مجتمعٍ مقاوم، فكان الشهيد القائد خليل الوزير "أبو جهاد" لا يُفوِّت فرصة اللقاء الدوري مع الكشّافة الفلسطينيين لوعظهم وإرشادهم وتثقيفهم عن قضيّتهم الأم "فلسطين".
بل وقد ذهب القادة أبعدَ من ذلك، إذ خصّصوا إطاراً جامعًا لمحبّي الحياة الكشفية، فكان أن أسَّسوا جمعية "الكشافة والمرشدات الفلسطينية" لتتحوّل فيما بعد إلى جمعية عابرة لأرض الوطن ينضوي تحت لوائها عددٌ كبيرٌ من الجمعيات والمراكز التي تُعنَى بشؤون الكشّافة في الداخل والشتات، وكان آخرها مركز "شهداء مخيّم برج البراجنة" التابع لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، والذي تأسَّس في بيروت العام 2016.


إنشاء المركز وأبرز أهدافه
" لقد أتت تسمية مركز "شهداء برج البراجنة" تخليدًا لذكرى الشهداء الذين ارتقوا وهُم يدافعون عن أبناء المخيَّم والقرار الفلسطيني"، بهذه الكلمات يختصر رئيس المركز جمال خليل فكرة إنشاء وإطلاق التسمية على المركز الذي يسعى إلى تكريم هؤلاء الشهداء من خلال توثيق أسمائهم وتاريخ استشهادهم. ويُشدِّد خليل على أنَّ نشاطات المركز لا تقتصر على الفعاليات الكشفية - وإن كانت واحدةً من أهمِّ المحاور التي يقوم عليها المركز- وإنَّما تتعدَّى ذلك إلى عددٍ من النشاطات الاجتماعية، والثقافية، والفنية، والرياضية.
ذلك المركز الذي يقع في أحد أزقة مخيَّم برج البراجنة يُلخِّص حكاية المخيَّم والقضية الفلسطينية منذ انطلاق الكفاح الفلسطيني المسلَّح، ولغاية يومنا هذا. ففيه تُنظَّم برامج التربية الوطنية، والتدريبات الكشفية، والتربية الدينية، ومحاضرات التوعية، والفنون الشعبية الفلسطينية، وعن ذلك يقول خليل: "إنَّ عملنا يهدف إلى الحفاظ على الهُوية والقضية الفلسطينية، وبناء شخصية الفرد، وإعطاء مساحات للأفراد للعمل وأخذ المبادرات، وتنمية قدراتهم ليصبحوا قادة المستقبل".
ويُفاخِر خليل أنَّ تجربته الكشفية التي بدأت منذ العام 1973 أثمرت بتأسيس مركز "شهداء مخيم برج البراجنة"، وهو المركز الأول في المخيَّم الذي يهدف إلى تنمية روح المبادرة لدى الشباب ونشر التوعية في صفوفهم، وهو يتحدَّى أن يكون قد خرج من مركزهم أو من مجموعات الكشّافة أي شخص غير قويم.
ويُشدِّد خليل على أنَّ العمل الكشفي ليس عملاً عسكريًّا، وإنَّما يستعمل الشدة مع اللين، ونظامَي الأبوة والأخوّة، إذ عندما يُسأل الكشفي عن خطته فإنَّ ذلك يُنَمّي روح الخير ويُعلِّمهُ الانضباط والطاعة. ولا يتوانى خليل في تعديد المبادئ التي يقوم عليها المركز – وهي المبادئ العامّة التي تقوم عليها الكشّافة بشكل عام- فيبدأها بالقول إنَّ الكشّاف صادق لا يكذب، وهو مطيع لله ورسوله بإخلاص، والكشّاف وفيُّ لا يخون، ويُساعد الناس في كلِّ حين، ويبذل المعروف لمَن أحسن أو أساء إليه، ولا يعبأ بالصعاب، ولا يحبُّ الإسراف، وهو مطيع ويحبُّ الطبيعة، والأهم أنَّه طاهر الفكر والقول والعمل. تلك الصفات هي ما يحاول خليل وأعضاء المركز غرسها في الأشبال والزهرات كما يُطلِقون عليهم.

الكشّافة نهج حياة
كلام خليل يؤكِّده القائد في مجموعة "الكرامة" الكشفية أسامة الحسين (32 عامًا)، الذي يعتبرُ أنَّ الحياة الكشفية تُنظِّم حياة الإنسان وتؤدّي دورًا إيجابيًّا في بناء شخصية الفرد وعلاقاته مع المجتمع والعائلة معتبرًا أنَّ تعلُّم تحمُّل المسؤولية يبدأ في الحياة الكشفية.
الحسين الذي دخل الحياة الكشفية منذ أن كان في الثامنة من عمره، يُعاهد نفسه أنَّه سيبقى في الكشّافة طالما هو حي، وهو أورث طريقة الحياة هذه إلى أولاده. ويؤكِّد الحسين أنَّ الحياة الكشفية تُصبحُ جزءاً لا يتجزَّأ من شخصية الفرد طالما أنَّ الفرد قد جرَّب الحياة الكشفية ليوم واحد في حياته، وعن ذلك يقول: "أن تكون كشّافًا ليوم واحد، فأنت كشّاف لمدى حياتك".
ويرى الحسين أنَّ الحياة الكشفية لا تقتصر على اللهو واللعب، إذ بمجرد أن يُصبح الإنسان قائدًا لمجموعة من الشباب، فذلك يُرتَّب عليه الكثير من المسؤوليات تجاه هؤلاء، ممَّا ينعكس إيجابيَّا على تفاصيل حياة القائد كافّةً، ويترتَّب عليه أن يكون قدوةً لهم، إذ من غير الممكن أن يكون الإنسان بشخصية مزدوجة.
 ويُشدِّد الحسين على أنَّ الكشَّافة تجمع الأضداد، فهي إلى جانب المتعلِّم والطالب تجمع العامل اليومي، وإلى جانب الشاب تجمع الكهل، وإلى جانب الغني تجمع الفقير، فالكشّاف أخ للكشّاف، وبالتالي توطِّد الحياة الكشفية الوحدة بين أطراف المجتمع كافّةً.
لكن الحسين يشكو من قلّة الإمكانات المادية التي تُشكِّل، في كثير من الأحيان، عائقًا أمام نشاطات المركز بشكل عام، والكشّافة بشكل خاص، فهو يحلم أن يكون لدى مجموعة "الكرامة" الكشفية القدرة المادية على إقامة عدد كبير من المخيَّمات الكشفية سنويًّا، وأن لا تقتصر نشاطاتهم على المشاركة في مخيَّم كشفي واحد كلَّ عام. لكنَّه يستدرك أنَّه وعلى الرغم من قلة الإمكانات فإنَّ واحدةً من أهمِّ أُسُس الكشّافة هي أنَّ الكشاف مُقتصد، ولذلك فالمركز يقيم ويشارك سنويًّا -بأقل تكلفة ممكنة- في مخيَّم كشفي، كان آخرها هذا العام في منطقة سبلين.
وينوِّه إلى أنَّ العائق الأمني كان هاجس الأهل في السنوات الأخيرة والرادع لهم في السماح لأبنائهم بالمشاركة في المخيَّمات الكشفية، لكنَّه يتفاءل خيرًا أنَّ قادم الأيام سيحمل ما هو أفضل للمركز وللكشافة الفلسطينية في الشتات.
كلام الحسين يتلاقى وكلام القائدة في مجموعة "بيسان الإرشادية" بسمة عسيلي (23 عامًا)، التي، وعلى الرغم من انضمامها إلى الفرق الكشفية التابعة للمركز منذ 10 سنوات، لم يسمح لها أهلها بالتخييم خارج المنزل أبدًا، وذلك خوفًا عليها من الأحداث الأمنية الفجائية على الساحة اللبنانية. لكن العسيلي أوجدت طريقة للمشاركة في المخيمات الكشفية من خلال الحضور نهارًا إلى المخيَّم الكشفي والعودة ليلاً إلى المنزل.
العسيلي التي تدرَّجت من عريف حتى وصلت إلى درجة قائد ورثت حُبَّ المركز والكشّافة عن والدتها التي كانت فيما مضى في الكشّافة الفلسطينية، وأصبحت الأم تُشكِّل مصدر إلهام لابنتها، وتشاركها في إيجاد الأفكار الجديدة للاستمرار في عملها. وترى العسيلي أنَّ عملها يتمحور حول ترسيخ الهُويّة الفلسطينية لدى الأطفال فهي تُعلِّمهم الإنشاد، وإلقاء القصائد عن حُبِّ الوطن فلسطين.
وتُشدِّد العسيلي على أنَّ عملها في المركز هو نتاج لجهود أطراف متعدِّدة تبدأ من رأس الهرم وتنتهي بأصغر فرد في المركز، لافتةً إلى أنَّ الهمَّ الأول والأخير للقيِّمين على المركز هو ترسيخ الـمُثُل العُليا لدى الفتيات والشبّان لتنشئة جيل متمسِّك بقضيّته ومُطالبٍ بحقِّه.
حُبُّ الكشافة بدأ ينمو مع العسيلي من الحكايات التي حدَّثتها عنها أمها وهي صغيرة عندما كانت تروي لها كيف كانت تمرُّ من أمام قادة الثورة الفلسطينية، وفي مقدَّمهم الرئيس الشهيد ياسر عرفات، فكبرت الابنة وتدرَّجت من عريف إلى قائد، وأصبحت تعاونها في مهامها شقيقتها الصغرى التي تبلغ من العمر 16 عامًا، والأخيرة أيضاً تدرَّجت حتى وصلت إلى مساعد قائد، وهي تسعى لأن تسير على درب أختها وأُمِّها وأن تصل إلى رتبة قائد.
وترى العسيلي وشقيقتها أنَّ مكانهما الطبيعي بعد سنوات طويلة هو ذلك المركز الصغير الذي يقع في مخيَّم برج البراجنة، ذلك المركز الذي يُطلَق عليه اسم مركز "شهداء مخيَّم برج البراجنة".