خاص مجلة "القدس" العدد 346 نيسان 2018

حوار: فاطمة المجذوب

لم يعد الفلسطينيون ينتظرون يومًا أو تاريخًا مُعيّنًا لإحياء ذكريات أوجاعهم، فكلُّ الذكريات باتت مجرد تواريخ، فهم يرون بأم أعينهم يوميًّا كيف تُسحَب الأرض من تحت أقدامهم، وكيف يتم حشرهم واعتقالهم. غير أنَّ لـ"يوم الأرض" مكانةً خاصّةً في ذاكرة كل فلسطيني، إذ جسّد هذا اليوم نقطة تحوِّلٍ حاسمةً في التاريخ الفلسطيني، ووحَّد الفلسطينيين على الرغم من افتراق أماكنهم.

وللإحاطة بتفاصيل وقائع هذا اليوم ورمزيّته وأهميته لِشعبنا الفلسطيني وتحديدًا للأجيال الناشئة، أجرت مجلة "القدس" هذا الحوار مع الكاتب والباحث صقر أبو فخر.

* شكَّل يوم الأرض نقلةً تاريخيةً في حياة الشعب الفلسطيني، كيف تذكر ذلك اليوم؟

يومُ الأرض هو حدث مهيب في التاريخ الفلسطيني الحديث، ونقطة تحوِّلٍ حاسمة في الحياة السياسية لفلسطينيي الـ1948، وبدايةً تأسيسيةً للحركة الوطنية في الداخل، تلك الحركة التي ورثت التاريخ الكفاحي لحركة الأرض ولحركة أبناء البلد وغيرهما. ولم يكن "يوم الأرض" مجرد ردّة فعل على القرارات الإسرائيلية المتمادية التي هدَّدت الوجود البشري للفلسطينيين، وحقوقهم في أرضهم، ولم يكن مجرد "هبّة" عابرة من الهبّات الاحتجاجية التي ابتدعها الفلسطينيون في مواجهة الاحتلال، وإنَّما كان ذروةً لنضالات متراكمة في مواجهة مصادرة الاراضي، وفي مقاومة العسف الإسرائيلي والإستعمار الاستطياني. ومنذ ذلك اليوم تحول فلسطينيو الـ1948 من جماعات ضعيفة ومتفرّقة ومتنافسة، إلى جماعة وطنية تعتدُّ بنفسها وبهويتها العربية، وتكافح في سبيل حقوقها القومية. و"يوم الأرض" كان نوعًا من العصيان المدني ضد الدولة الإسرائيلية ومؤسستها العسكرية، إذ تضمَّن الإضراب العام وإغلاق الطرق والشوارع، وتخلَّلته المسيرات الشعبية الحاشدة، والتظاهرات والمواجهات العنيفة مع الجيش والشرطة، واستخدام الزجاجات الحارقة ضدَّ قوات الأمن الإسرائيلية. وهو، بهذا المعنى، شكّل تحوُّلًا خطيرًا في التفكير السياسي للفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم ولو تحت الاحتلال، فنَفَضوا عنهم علامات الاستكانة والخوف من الترحيل، وانتفضوا دفاعًا عن حقوقهم، وبرهنوا أنَّ الوحدة الوطنية لديهم كفيلة بتعزيز مكانتهم وهويتهم التي لم تتمكَّن السلطات الإسرائيلية من تفكيكها طوال ثمانية وعشرين عامًا من القهر والتسلُّط والتمييز العنصري.

*ماذا يعني هذا اليوم للشعب الفلسطيني؟

يوم الأرض هو المحصلة الطبيعية للنضال السياسي الذي خاضته القوى الوطنية في مناطق الـ1948 منذ سنة 1966 على الاقل، أي منذ انتهاء الحكم العسكري الذي كان مفروضًا عليها. وهو يعكس، علاوةً على ذلك، حالة النهوض الوطني الفلسطيني في الخارج أيضًا، خصوصًا بعد سنة 1974 حين أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية ممثِّلاً شرعيًّا وحيدًا للشعب الفلسطيني بموجب قرار مؤتمر القمة العربية في الرباط، وبعد خطاب الشهيد ياسر عرفات في الأمم المتحدة، وبعد الصمود الكبير لقوات الثورة الفلسطينية في جنوب لبنان أمام الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة. ثُمَّ انَّه جاء ليكرِّس مكانه منظمة التحرير الفلسطينية في صفوف فلسطينيي الداخل خلافًا لما كانت (إسرائيل) تحاول إشاعته عن أنَّ فلسطينيي الداخل هُم مواطنون إسرائيليون، ولا يُؤيّدون المنظمة وسياساتها.

وفي سياق النهوض الفلسطيني آنذاك جاء "يوم الأرض" ليُعلن وحدة الفلسطينيين في كلِّ مكان حتى لو افترقت أهدافهم القريبة، لأنَّ الأهداف البعيدة واحدة تتلخَّص في تحرير الأرض وعودة أهلها إليها.

وفوق ذلك، فإنَّ "يوم الأرض" برهن آنذاك أنَّ في الإمكان الدفاع عن الأرض من دون الاعتماد على الأمم المتحدة مثلاً أو الفاتيكان على سبيل المثال، بل على الوحدة الوطنية في الداخل، وعلى ممثِّلهم الشرعي في الخارج، أي منظمة التحرير. وساهم "يوم الأرض"، بلا ريب، في توحيد النضال في الداخل والخارج إلى حدٍّ جيّدٍ، كما كان له شأنٌ مهمٌّ في عملية إعادة تكوين الهوية الفلسطينية على أُسُسٍ نضاليةٍ حاسمةٍ، وجعل الوحدة الوطنية في أراضي الـ1948 ممكنة وقوية، فتجمَّعت في سياق سياسي مشترك جميع القوى الوطنية مثل حركة أبناء البلد وحركة الأرض والحزب الشيوعي ومجموعات وطنية أخرى مثل "لجنة الدفاع عن الأراضي العربية" و"اللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية العربية".

*سقط في يوم الأرض عددٌ من الشهداء. هل مازال التواصل قائمًا مع ذويهم؟

بلغَ عددُ الشهداء في ذلك اليوم ستة شهداء، وبلغ عدد الجرحى نحو 49 جريحًا، واعتقلت السلطات الإسرائيلية ما لا يقل عن 250 فلسطينيًا. أمَّا الشهداء فهم: خير ياسين (من بلدة عرابة)، خديجة قاسم شواهنة (من بلدة سخنين)، محسن طه (من بلدة كفركنا أو قانا الجليل التي صنع المسيح فيها معجزته الأولى)، رجا أبو ريا وخضر خلايلة (من سخنين أيضًا)، رأفت علي الزهيري (من مخيم نور شمس في الضفة الغربية). وقد مثَّل استشهاد رأفت الزهيري في بلدة الطيبة، وهي من بلدات المثلَّث العربي، وحدة النضال الفلسطيني ولو بصورة رمزية. وهؤلاء الشهداء جسّدوا، بدمائهم، الروح المتوثّبة للوطنية الفلسطينية الجديدة في أراضي الـ1948، ومسارًا مختلفًا في النضال الفلسطيني، الأمر الذي جعل الفلسطينيين في داخل "الخط الأخضر" وفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة يظهرون كشعب واحد، ولهم تطلّعاتهم الموحَّدة على الرغم من انفصالهم الجغرافي.

أمَّا التواصل مع عائلات الشهداء، ومع أنَّني عملت طويلاً في قسم الأرض المحتلة في مركز التخطيط الفلسطيني، وكانت أوضاع الأهل في أراضي الـ1948 في رأس متابعتنا، إلا أنَّ التواصل مع هؤلاء كان من مهمَّات الأخ الشهيد خليل الوزير والقطاع الغربي، وعبر أقنية سرية على العموم، أو من خلال القوى السياسية العلنية في الداخل. ومهما يكن الأمر فإنَّ النّصب الكبير الموجود حتى اليوم عند مدخل بلدة سخنين، والذي يعيد إلى الذاكرة التاريخ البهي ليوم الأرض، يجعل هؤلاء الشهداء مقيمين لا في الذاكرة، بل في الأرض كبذور القمح، فقد اعتقد الإسرائيليون أنَّهم دفنوهم، والحقيقة أنَّهم نبتوا مُجدَّدًا.

*هل لهذا اليوم أهمية خاصة للأجيال الفلسطينية في الداخل والشتات؟

بالتأكيد، لقد بدأت الأحداث في 29/2/1976 حين أعلنت السلطات الإسرائيلية أنَّها ستُصادر 21 ألف دونم من الأراضي العربية في عرابة وسخنين ودير حنا وعرب السواعد وغيرها من قرى الجليل والمثلَّث لإقامة مزيد من المستعمرات اليهودية عليها في نطاق خطة تهويد الجليل. والمعروف أنَّ (إسرائيل) كانت قد صادرت حتى ذلك الوقت أكثر من مليون دونم من الأراضِ الجليل والمثلَّث فوق ما صادرته ممَّا يُسمّى "أملاك الغائبين". وفي الأثر دعت اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية إلى اجتماع في مدينة الناصرة في 6/3/1976 لمواجهة المخططات الإسرائيلية. وفي هذا الإجتماع أُقرَّ إعلان الإضراب العام في ما لو لم تتراجع السلطات الإسرائيلية عن قرارها.

وقد حاولت الحكومة الإسرائيلية بجميع وسائل الترهيب والترغيب والخداع شقَّ الاجماع الفلسطيني وكسر الإضراب ففشلت. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، على الرغم من انهماكها في الدفاع عن نفسها وعن شعبها في لبنان خلال الحرب الأهلية اللبنانية، تشد من أزر الفلسطينيين في الداخل، وفي اليوم المحدَّد للإضراب اشتعلت قرى الجليل والمثلَّث بالتظاهرات، وعمَّت المسيرات الاحتجاجية عرابة وسخنين وأم الفحم ودير حنا ودالية الكرمل وعسفيا وحرفيش والطيبة والطيرة ومعليا والناصرة وتمرة وغيرها. وهبَّ أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة لمؤازرة فلسطينيي الـ1948، وسيّروا تظاهرات صاخبة في القدس ونابلس ورام الله والخليل وبيت لحم وجنين وطولكرم، ووقعت مصادمات أمام الكنيست في القدس. وقاد رفائيل إيتان عملية إنزالٍ في البطوف وتصدَّى بالنيران للمتظاهرين الذين واجهوا دباباته بلا خوف. وكانت تلك المواجهة درسًا شديد التعبير للأجيال الفلسطينية عن قدرة الإرادة الواعية على المواجهة وتحقيق الإنجازات.

*فتيانُنا وشبابُنا اليوم لديهم ثقافة خجولة حول ما يعنيه يوم الأرض. ما هي النصيحة التي تُقدِّمها لزيادة الوعي لديهم؟

لا أرغب في تقديم النصائح، فالأمر يتعدَّى ذلك تمامًا. ثمَّة مشكلة في الوعي التاريخي والوعي الوطني للأجيال الفَتِيّة من الفلسطينيين في المخيّمات، حتى أنَّ بعضهم يكاد لا يسمع باسم جورج حبش مثلاً. إنَّ مسألة الوعي الوطني تعادل مسألة النضال الوطني ومساراته، والأمر يحتاج إلى جهد متضافر تشارك فيه العائلة والمدرسة والمدرسون والجمعيات الأهلية والفصائل ذات الهمّة. لكن كلَّ ذلك يتحلَّل بالتدريج للأسف الشديد. فمن أين نأتي بمعلِّم من طراز أبو ماهر اليماني الذي ما كان لينام قبل أن يطمئن على تلامذته أنَّهم أنجزوا دروسهم؟ وكان هو وأمثاله من المعلّمين يبدأون حصصهم الدراسية بعشر دقائق عن التاريخ الفلسطيني أو عن إحدى المناسبات الوطنية. إذًا، المطلوب مدرسون مناضلون لا مدرسون يركضون من مدرسة إلى أخرى لتحصيل ما أمكن من ساعات التدريس لتحسين رواتبهم. المجتمع الفلسطيني في مخيَّمات الشتات بدأ سوس الخراب ينخره بقوة، ولاسيما بعد سنة 1982، وعائلاته تتفكَّك جرّاء هجرة أبنائها. إنَّ هذا التدهور بات يُهدِّد الهوية الوطنية بالضمور، والثقافة الوطنية بالانحلال. ومن المحال مواجهة تلك الحال إلّا بتضافر جهود شتّى في هذا الميدان تبدأ من العائلة والمدرسة والمجتمع، لتنتهي في التعليم الجامعي والمؤسسات الثقافية شبه الغائبة.