لم تكنْ بريطانيا من الدّولِ المؤسِّسةِ للسّوقِ الأوروبيّةِ المشتركةِ والتي تُعرفُ الآن بالاتحادِ الأوروبيِّ، فقد دخلت إلى السّوقِ عام ١٩٧٣ بينما تمّ وضعُ الأساسِ القانونيِّ لهذه المؤسسةِ الأوروبية عام ١٩٥٧ عندما تمّ التوقيعُ على اتفاقيّاتِ روما. ولم تكن بريطانيا منذ دخولِها إلى السّوقِ وخلالَ السنواتِ التي أعقبت إنشاءَ الاتحادِّ الأوروبيّ عاملاً وحدوياً مهتمّاً بتعزيزِ الروابطِ بين دولِ الاتحادِ، فقد كانت على الدّوامِ تتخذُ موقفَ المعارِضِ للتوجّهاتِ التي تقودُها القاطرةُ الفرنسيةُ-الألمانيّةُ الهادفةُ إلى الوصولِ بالاتحادِ الأوروبيِّ إلى أقصى درجاتِ الوحدةِ والانفتاحِ وإزالةِ الحدودِ والموانعِ النفسيةِ والثقافيةِ والتاريخيّةِ التي تعيقُ هذه الوحدة. في المقابلِ ظلّت بريطانيا تتصرّفُ كجزيرةٍ معزولةٍ عن القارّةِ الأوروبيّةِ وتنأى بنفسِها عن كلِّ ما من شأنِهِ المساسُ بمظاهرِ سيادَتِها الوطنيّةِ، لذلك رفضت مثلاً الانضمامَ إلى معاهدةِ شينغين التي تضمنُ حريّةَ حركةِ الأفرادِ بين دولِ المعاهدةِ وتوحّدُها في مجالِ الحصولِ على تأشيراتِ الدّخولِ لرعايا الدّولِ الأخرى. كما رفضت بريطانيا الانضمامَ إلى منطقةِ اليورو وتمسّكت بعملتِها الوطنيّةِ بكلِّ ما يعنيهِ ذلكَ من معارضةٍ للمزيدِ من مظاهرِ الوحدةِ النقدية والاقتصادية الأوروبيّةِ. أما في المجالِ السياسيّ فقد بقيت بريطانيا محافظةً على تميُّزِها عن الخطِّ الأوروبيِّ الاستقلاليِّ وأصرّت على أولويةِ علاقاتِها مع الولاياتِ المتحدّةِ الأمريكيّةِ، ودعمت كلَّ الحروبِ والمغامراتِ التي قامت بها الإداراتُ الأمريكيّةُ المتعاقبةُ بغضّ النظرِ عن الحزبِ الحاكمِ في أمريكا أو في بريطانيا. 

 

هذا الدّورُ البريطانيُّ داخلَ الأُسرةِ الأوروبيّةِ كان لا بدَّ له أن ينتهي بخروجِ بريطانيا من هذهِ الأسرةِ، وهو ما تمَّ إقرارُهُ في الاستفتاءِ الذي تمَّ تنظيمُهُ في حزيران/يونيو ٢٠١٦ والذي كان وراءَهُ رئيسُ الوزراءِ الأسبقِ كاميرون، ظنّاً منهُ أنَّ النتيجةَ ستكونُ لصالحِ البقاءِ في الاتحادِ الأوروبيّ، إلا أنَّ تنامي القوى الشعبويّةِ وطغيانَ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ بما تضمنُهُ من سهولةِ الوصولِ إلى الناسِ العاديّينَ وسرعةَ نشرِ الأكاذيبِ والشّائعاتِ، إضافةً إلى الأزماتِ التي عصفت بالاتحادِ الأوروبيّ وخاصةً أزمةُ اللاجئين في صيف ٢٠١٥، علاوةً على الدورِ الذي مارستهُ روسيا وهو دورٌ لا يخفى على أحدٍ في تشجيعهِ للقوى المعارضةِ للوحدةِ الأوروبية، كلُّ ذلكَ وغيرُهُ من العواملِ أدّى الى النتيجةِ المعروفةِ للاستفتاءِ وهي فوزُ التيارِ الداعي إلى خروج بريطانيا من الاتحادِ الأوروبيِّ بفارقٍ بسيطٍ في الأصواتِ لكنّهُ ملزِمٌ أخلاقيّاً للحكومةِ البريطانيّة المنتخبةِ من الشّعب.

 

لا مجالَ هنا لسردِ الفترةِ التي أعقبت الاستفتاءَ ومحاولةِ الحكومةِ تنظيمَ خروجٍ آمنٍ لبريطانيا من الاتحادِ الأوروبيِّ، فقد استقالَ كاميرون كردٍّ على النتيجةِ التي أوصلَ بلدَهُ إليها بقرارِهِ المغامرِ بتنظيمِ الاستفتاء، ولم تتمكّن تيريزا ماي من تمريرِ الاتفاقيةِ التي أبرمَتْها مع الاتحادِ الأوروبيِّ والتي تحدّدُ آلياتِ الخروجِ البريطانيِّ ضمنَ برنامجٍ زمنيٍّ واضحٍ، لكنها بالمقابلِ اتفاقيةٌ تحدُّ من السيادةِ البريطانيّةِ في ايرلندا الشّماليةِ، لأنها تصرُّ على بقاءِ الحدودِ مفتوحةً بين ايرلندا كعضوٍ في الاتحادِ الأوروبيِّ وبين ايرلندا الشماليةِ -وهي جزءٌ من المملكةِ المتّحدةِ- كشرطٍ لاستمرارِ حالةِ السّلمِ بينَ شطرَيْ ايرلندا بناءً على اتفاقيةِ الجمعةِ العظيمة عام ١٩٩٨ والتي وضعت حدّاً للحربِ الأهليةِ في ايرلندا الشمالية. وها هو رئيسُ الوزراءِ جونسون يقعُ في نفسِ المصيدةِ التي وقعَ فيها سابقوهُ، فرغم إصرارِهِ على التمسّكِ بتاريخِ الخروجِ "النّهائيِّ" المحدّدِ بنهايةِ تشرين ثاني/اكتوبر الحالي، ما زالَ يواجهُ الفشلَ تلوَ الفشلِ في محاولاتِهِ لتمريرِ الاتفاقِ مع الاتحادِ الأوروبي الذي يصطدمُ كلَّ مرّةٍ يتمُّ طرحهُ للتصويتِ أمامَ مجلسِ العمومِ بمعارضةٍ قويّةٍ، كان آخرَ مظاهرِها قرارُ المجلسِ يومَ أمس تأجيلَ التصويتِ على الاتفاقِ المعدّلِ للخروج البريطانيّ، وهو ما يدفعُ بريطانيا إلى مزيدٍ من الفوضى ويبقي البابَ مفتوحاً أمامَ كافّةِ الاحتمالاتِ، بما في ذلكَ تنظيمُ استفتاءٍ جديدٍ يطرحُ مسألةَ الخروجِ من الاتحادِ الأوروبيِّ أمامَ المواطنينَ مرّةً أخرى.

 

*استطاعت أوروبا الموحّدةُ أن تعطي درساً لكلِّ من تسوّلُ لهُ نفسهُ بمغادرةِ الاتحادِ الأوروبيِّ، فكلُّ ما تملكهُ بريطانيا "العظمى" من تاريخٍ واقتصادٍ قويٍّ وكبرياءٍ وطنيٍّ لا يصمدُ أمامَ إرادةِ أوروبا بفرضِ شروطِها حفاظاً على مصالِحِها وقِيَمِها المشتركةِ، والتي تتجسّدُ بينَ أمورٍ أخرى في الحفاظِ على السّلمِ والاستقرارِ في ايرلندا. 

 

٢٠-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان