الانتخابات البرلمانية التونسية، التي جرت يوم الأحد الموافق 6 تشرين اول/ اكتوبر الحالي (2019)، وهي الانتخابات البرلمانية الثانية بعد ربيع تونس نهاية 2010، حملت في طياتها ونتائجها عنوان أزمة كبيرة تعصف بالمجتمع التونسي، حيث أظهرت الجماهير التونسية من مختلف الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية عزوفا كبيرا عن المشاركة في العملية الديمقراطية، فلم تتجاوز نسبة المقترعين 41,3% في الداخل التونسي، وفي الخارج والمهاجر بلغت 16,4%، وكأنها لم تعد مبالية بما يمكن ان تحمله صناديق الاقتراع من نتائج، وإن كان هناك هاجس اساسي يؤرقها وهو عدم منح حركة النهضة التونسية (فرع الاخوان المسلمين) دورا اساسيا في تقرير مصير البلاد والشعب والنظام السياسي التعددي الديمقراطي، وبذات القدر وجهت تلك الجماهير صفعات متتالية وقوية على وجه قوى اليسار، الذي لم يحظ سوى مقعد واحد من برلمان يبلغ عدد اعضائه 217 عضوًا، وهو انعكاس لرفض الشارع التونسي لمنطق اليسار النخبوي المأزوم، الذي يعيش حالة تناقض عميقة بين الطروحات الفكرية وبين واقع الحال، فهو بعيد بعد الأرض عن السماء عن الجماهير الفقيرة والمسحوقة والعمال والمزارعين والبرجوازية الصغيرة، ويعيش في حالة تقوقع على الذات، واغتراب عن الشارع وهمومه، وأسير تحالفات عاجزة وساذجة ومتناقضة فيما بينها، وهو بالمناسبة صورة عن واقع كل اليسار العربي بدون استثناء.  

 

ويمكن الجزم أن النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية الحالية، كما الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الماضية (15 أيلول/ سبتمبر 2019) جاءت خارج نطاق صندوق التوقعات المتداولة في تونس، حيث تربع على رأس الجولة الأولى الدكتور قيس سعيد، والسجين نبيل القروي، وغاب ممثلو الأحزاب الرئيسية، واصحاب المواقع الحكومية. ومن خلال القراءة الأولية لنتائج الانتخابات التي جاءت كالتالي: 52 مقعدا لحركة النهضة، 38 مقعدا لقلب تونس، و21 مقعدا للتيار الديمقراطي، و16 مقعدا لائتلاف الكرامة، و21 مقعدا للحزب الدستوري الحر، و15 مقعدا لحركة الشعب، و14 مقعدا لتحيا تونس، وحزب نداء تونس 4 مقاعد، و3 مقاعد للاتحاد الشعبي، و3 مقاعد للبديل التونسي، و3 مقاعد لحزب الرحمة، ومقعدان لحزب أمل وعمل، ومقعد يتيم للجبهة الشعبية، ومقعد آخر لافاق تونس، ومقعد لتيار المحبة، وسبعة مقاعد للمستقلين، وعليه يمكن استخلاص واستنتاج الآتي:

 

أولا- أظهرت النتائج وحود أزمة عميقة تلف الشارع التونسي، حيث لم يفوض حزبا بعينه لتشكيل الحكومة، وتوزعت المقاعد على 17 حزبا وائتلافا بالإضافة للمستقلين. ثانيا- رفض شعبي عام للحالة الحزبية المتشرذمة والمتفسخة، التي لا تعكس حضورا كاريزماتيا ولا برنامجيا. فضلا عن الفجوة بينها وبين الجماهير، والانحسار في مربعات مناطقية وجهوية، أو نخبوية. ثالثا- حالة رفض وغضب من القوى السياسية المختلفة، وخاصة من حزب "نداء تونس"، الذي وجهت له الجماهير ضربات مميتة، فبعد ان كان يملك 80 مقعدا في الانتخابات السابقة 2014، لم يحصل في هذة الانتخابات إلآ على اربعة مقاعد وبالعافية، وهذا نتاج التفسخ والتمزق الداخلي الناجم عن الصراعات والتناقضات التناحرية بين رموز الحزب، وبسبب بروز ظاهرة التوريث القاتلة. رابعا- بروز قوى جديدة ومؤثرة مثل حزب "قلب تونس"، الذي يتزعمه نبيل القروي، مرشح الرئاسة المعتقل منذ 23 آب/ أغسطس الماضي، حيث حصل على 38 مقعدا، والمرتبة الثانية بعد حركة النهضة. خامسا- رغم محافظة حركة النهضة على تصدرها أعلى النسب وعدد المقاعد في البرلمان الجديد، إلآ ان وزنها وقوتها تراجعت عن الانتخابات السابقة التي حصلت فيها على 68 مقعدا، وشاركت في تشكيل الحكومة. ولكنها في هذة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لم تتمكن من استقطاب الجماهير التونسية، رغم انها عشية الانتخابات استخدمت مفاهيم ومصطلحات ثورجية ديماغوجية لحرف أنظار التوانسة عن تاريخها وسجلها الإخواني. لكن الشعب كان متنبها لها، ومع ذلك حافظت النهضة عبر اساليب مختلفة على قاعدتها الانتخابية (نواتها الصلبة)، التي لم تزد عن 19,5%. مع اعتقادي ان رصيدها الحقيقي هو ما حصل عليه المرشح الرئاسي عبدالفتاح مورو، وهو 11%. سادسا- اللافت للنظر هو حصول ائتلاف الكرامة على 16 مقعدا، وهو ائتلاف سلفي ومحافظ، وهو ما يعني انه يمكن ان يشكل داعما حقيقيا للنهضة. سابعا- توزع المقاعد على الفسيفساء الحزبية وبعض المستقلين، تحتمل العودة القريبة لصناديق الاقتراع، حيث من المفترض ان يكلف الرئيس المنتخب في 13 اكتوبر الحالي الحزب الحائز على اكبر عدد من المقاعد، وهو حركة النهضة، وسيمنح رئيسها شهرا لتشكيل الحكومة، وقد يمدد له شهرا إضافيا، ولكن من النظرة العامة للوحة البرلمانية، فإن إمكانية تشكيل حكومة سيكون صعبا جدا، إلآ إذا حصلت مساومة بين النهضة وقلب تونس مع ائتلاف الكرامة، فإن إمكانية تشكيل الحكومة واردة عندئذ، حيث سيتجاوزون العدد المطلوب لمنح الثقة للحكومة، وهو 109 اعضاء، وإن فشلوا في ذلك، قد يكلف ممثل حزب آخر، ولكن ايضا قد لا يكون حظه اوفر من حظ الغنوشي والنهضة. المعادلة حتى اللحظة معقدة وصعبة.

 

نتائج الانتخابات أوقفت تونس كلها على رؤوس اصابعها، وعصفت بالكثير من التابوهات والمألوفات، وعمقت الأزمة الداخلية، ولم تخفف منها، والقت بكم كبير من الأسئلة في وجه كل المنظومة الحزبية على امتداد الـ218 حزبا، لعلها تراجع ذاتها وتجربتها في المستقبل المنظور، لكن المؤكد أن حركة النهضة واليسار على حد سواء مع نداء تونس في تراجع واضمحلال، إن لم تتدارك تللك القوى خطاياها.