في مثل هذا الوقتِ من كلِّ عام يتمُّ الإعلانُ عن أسماءِ الفائزين بجائزةِ نوبل في مجالاتِ الآدابِ والكيمياء والفيزياء والاقتصاد والطبِّ/علمِ وظائف الأعضاء والعملِ في سبيلِ السلام. وقد تمّ منحُ أوّلِ جائزةٍ للسلامِ سنة ١٩٠١ لمؤسّسِ منظمةِ الصليبِ الأحمر الدولي السويسري جان دونانت مناصفةً مع الخبير الاقتصاديّ الفرنسيّ فريدريك باسي ليشكّلا بدايةَ حقبةٍ جديدةٍ من السباقِ للحصول على تلك الجائزةِ القيّمةِ ماديّاً ومعنويّاً، والتي ظلّت منذ بداياتِها خاضعةً لتأثيراتِ السياسةِ وأهوائها، وخاصّةً جائزةُ نوبل للسلامِ والآدابِ، حيث تمّ استخدامُهما دوماً لتحقيقِ أهدافٍ سياسيّةٍ تتوافقُ مع المصالحِ الغربيّةِ بشكلٍ عامٍّ. 

 

الجائزةُ هي تنفيذٌ لوصيّةِ العالِم السويديِّ ألفريد نوبل مخترع مادّةِ الديناميت، تلكَ الوصيّةِ التي أرادَ من خلالِها التّكفيرَ عما اعتبرَهُ ذنْباً اقترفهُ باختراعِ تلكَ المادّةِ المدمّرةِ عبر تشجيعهِ للعلماءِ والأدباءِ والنّشطاءِ السياسيّينَ والاجتماعيّينَ على اكتشافِ ما يفيدُ البشريّةَ ويغني تراثها العلميَّ والثّقافيَّ وينشرُ ثقافةَ السلامِ والتعايشِ ونبذِ الحروبِ واحترامِ الحياةِ البشريّةِ. لا شكَّ أنّ الهدفَ الذي دفعَ مخترِعَ الديناميتِ القاتِلِ إلى تخصيصِ جوائزَ لتشجيعِ فعلِ الخيرِ كانَ هدفاً نبيلاً، لكنّ هذهِ الجائزةَ التي تمثّلُ أعلى درجاتِ طموحِ العُلماءِ والأدباءِ والسيّاسيّينَ كانت ولا زالت محورَ نقاشاتٍ لا تخلو من اتّهام القائمينَ عليها بحرفِها عن هدفِها الذي أقيمت من أجله. 

 

لو دقّقنا النظرَ قليلاً في تاريخِ جائزةِ نوبل للسّلامِ لوجدنا أنّها خاضعةٌ طوالَ الوقتِ لمعاييرِ الأهدافِ الآنيّةِ للسياسةِ الغربيّةِ. يكفي أن نشيرَ إلى أنّ المهاتما غاندي الذي لا ينازعُهُ أحدٌ في نزعتِهِ نحوَ الوسائلِ السّلميةِ لتحقيقِ أهدافٍ سياسيّةٍ، ونبذِهِ للعُنفِ بكلِّ أشكالِهِ، لم يفُز بتلكَ الجائزةِ رغمَ ترشيحِهِ لها خمسَ مرّات، وهذا بالطبع بسبب هيمنةِ بريطانيا العظمى -عدوِّ غاندي ومستَعمِرِ وطنِه- على قرارِ اللجنةِ المختصّةِ بمنحِ الجائزةِ. ومن المفارقاتِ أنْ يتمَّ منحُها لاحقاً لوزيرِ الخارجيةِ الأمريكيِّ هنري كيسنجر ورئيس الوفدِ الفيتناميِّ المفاوضِ في مباحثاتِ إنهاءِ الحربِ في فيتنام "لي دوك ثو"، حيثُ تمّ منحُ الجائزةِ دونَ أن تحقّقَ المفاوضاتُ هدفها، وهو ما حدا بالسياسيّ الفيتناميِّ إلى رفضِ استلامِ الجائزةِ عام ١٩٧٣ ليكونَ بذلك الفائزَ الثّاني الذي يرفضُ استلامَها بعدَ أن سبقهُ الكاتبُ والفيلسوفُ الفرنسي جان بول سارتر في ذلكَ حين رفضَ استلامَ جائزةِ نوبل للآدابِ عام ١٩٦٤. هذا بالإضافةِ الى تسخيرِ الجائزةِ لخدمةِ السياسة الغربية خلالَ فترةِ الحربِ الباردةِ عبر منحِها للعديدِ من المنشقّينَ من مواطني الاتحادِ السوفياتيِّ وبقيةِ دولِ المعسكرِ الاستراكيّ.

 

الصراعُ العربيُّ الإسرائيليُّ هو أحدُ الأمثلةِ الصّارخةِ على ربطِ جائزةِ نوبل بالسياسةِ وبالمصالحِ الغربيّةِ. فقد تمّ منحُ الجائزةِ عام ١٩٧٨ مناصفةً بين الرئيسِ المصريِّ أنورِ السادات ورئيسِ الوزراءِ الإسرائيلي مناحيم بيغين بعد زيارةِ الساداتِ للقدسِ وقبل أن يتوصّلَ الجانبانِ إلى اتفاقيّةِ سلامٍ بينَهما. وظهَرَ حجمُ النّفاقِ والانحيازِ إلى الدّولةِ الصّهيونيّةِ بشكلٍ أكثرَ وضوحاً عندما تمّ منحُ جائزةِ نوبل للسلامِ بعد توقيعِ اتفاقياتِ أوسلو، حيثُ تمّ استثناءُ الأخ الرئيس أبو مازن من قائمةِ الحائزينَ عليها، رغمَ أنّهُ هو من قامَ بالتّوقيعِ على تلك الاتفاقيّاتِ في حديقةِ البيتِ الأبيضِ في ١٣ أيلول/سبتمبر ١٩٩٣، بينما حصلَ على الجائزةِ عام ١٩٩٤ الزعيمُ الخالد أبو عمّار مقابلَ اثنَيْنِ من قادةِ الدولةِ العبريةِ هما اسحاق رابين وشمعون بيريز، وهو ما شكّلَّ إمعاناً في الانحيازِ للدولةِ الصهيونيّة. هذا علاوةً على الإهمالِ المتعمّدِ للكُتّابِ والشّعراءِ الفلسطينيّينَ وفي مقدّمتهم الشاعرُ الكبيرُ محمود درويش الذي يكفي رصيدُهُ الشعريّ للفوزِ بجائزةِ نوبل للآدابِ عدّةَ مرّات.

 

لا شكَّ أنّ الجائزةَ تلعبُ دوراً رياديّاً في مجالاتِ الطبِّ والفيزياءِ والكيمياءِ، حيثُ تركّزُ على تكريمِ العلماءِ الذينَ يسهمونَ بإيجادِ الحلولِ لما يواجههُ العالمُ من تحدّياتٍ. لكنَّ ما يُفقِدُ الجائزةَ مصداقيّتَها هو الإصرارُ على تجييرها لخدمةِ الأهدافِ والمصالحِ الغربيةِ وبشكلٍ يتناقضُ غالباً مع ثقافاتِ الشّعوبِ ومصالحها ويشجّعُ الخارجينَ عن تقاليدِها وتراثِها.

 

*في سجلِّ جائزةِ نوبل للسّلامِ لا بدَّ من الإشارةِ إلى المكانةِ التي تتبوّأها دولةُ الاحتلالِ والاستيطانِ الإسرائيليِّ ولا تنازِعُها عليها دولةٌ أخرى، فهي الوحيدةُ التي قتلَت اثنَيْن من الحائزينَ على الجائزةِ، وهما اسحق رابين والشهيدُ الخالدُ أبو عمّار. 

 

١٠-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان