في تشرين الأول/ أكتوبر الحالي احتفلت جمهورية الصين الشعبية بالذكرى الـ 70 لاستقلالها، ومع صعودها إلى أعلى قمم التطور الاقتصادي، لا بل وقد تكون الأولى عالميا، رغم أن القيادة الصينية ترفض عن سابق عمد وإصرار هذا التصنيف لما له من تداعيات داخلية وعالمية، قد تحملها أعباء لا تريدها، وتسحب من بين يديها امتيازات في ظل تصنيفها الحالي كـ "دولة نامية".

التنين الصيني بتجربته الرائدة والاستثنائية وعلى كل الصعد الفكرية والسياسية والاقتصادية والدفاعية والثقافية، كان محط إعجاب وتقدير من جهة، وحقد وغضب وكراهية من جهة أخرى من قبل أقطاب ودول في القارات الخمس. وما يدور من حرب طاحنة يقودها الرئيس الشعبوي، دونالد ترامب على الاقتصاد الصيني إلا نموذجا لتلك الأحقاد والخشية من العملاق الشيوعي، الذي يتقدم بخطى حثيثة نحو آفاق جديدة من الرقي والتطور المذهل، رغم كل تقديرات الخبراء الاقتصاديين، الذين يشيرون إلى وجود مرض "المتلازمة الصينية"، وهو مرض خاص بالاقتصاد الصيني، حيث يعتقد أولئك الاقتصاديون أن "طفرة التنمية خلال العقود الأربعة الماضية تتجه نحو التراجع في معدلات التنمية، وفي حجم الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الصيني". غير أن هذا الاستنتاج، الذي يعتمد على تراجع الاستثمار في مجال بعينه، هو التأسيس والتطوير للشركات العاملة في مجال التكنولوجيا والهاي تيك الحديثة، لا يعكس قراءة موضوعية لمجمل مقومات وركائز ومجالات الاقتصاد الصيني، ما يسمح بالاجتهاد، بأن الاستنتاج فيه نوع من الإسقاط الرغبوي، أكثر منه قراءة موضوعية.

الصين العظيمة بتاريخها وتجربتها الفذة خلال السبعين عاما من 1949 حتى اللحظة التي نعيشها مرت بأربع مراحل في تطورها الاقتصادي: 1- مرحلة النموذج الاشتراكي والاقتصاد المركزي 1949/ 1977؛ 2- التحرر والإصلاح الاقتصادي 1978/ 1988؛ 3- تجميد الإصلاح الاقتصادي 1989/ 1991؛ 4- استئناف الإصلاح 1992 حتى الآن. طبعا لا مجال هنا للتعرض لأبرز سمات وخصائص كل مرحلة من المراحل.

هذه المراحل الأربع مرت بطريق شائك ومعقد، وكانت فيها حقول ألغام داخلية وخارجية، لكن بفضل إرادة وحكمة القيادة الصينية، ودعم الشعب لها تمكنت من تخطي كل العثرات والإرباكات، وتجاوزت الفشل والهزيمة والانكماش والركود الاقتصادي، وانتصرت على ذاتها. ويمكن اعتبار عام 1978 مع وصول الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ لسدة الزعامة، محطة فاصلة بين تاريخين ونموذجين مختلفين من الصين اختلافا جذريا من حيث مكانة الصين العالمية، ومستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي ... إلخ. محطة لها ما قبلها، ولها ما بعدها. رغم ان المحطة الأخيرة شهدت في بداياتها انعطافات حادة منها مظاهرات ميدان "تيانانمين"، التي أدت إلى تجميد الإصلاحات الاقتصادية، لكن القيادة سرعان ما أمسكت بدفة البلاد والشعب، وواصلت مسيرة التحولات الاقتصادية الهائلة. التي انعكست على الأرض وعلى الشعب الصيني الشجاع، فبلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي للصين 9,5% سنويا على مدار العقود الأربعة الماضية، وفي بعض السنوات وصل إلى ما يزيد عن 17%، و15%، وهو ما يعني ارتفاع حجم الناتج المحلي الإجمالي للصين بمقدار 44 ضعفا. وحدوث قفزة نوعية هائلة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي، فبعد ان كان عام 1980 حوالي 305 مليارات دولار، وصل عام 2018 إلى 13,5 تريليون دولار أميركي، وهذا بدوره أدى إلى ارتفاع نصيب الاقتصاد الصيني من 2,7% إلى 16% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وبنفس الفترة تراجع الاقتصاد الأميركي من 25,7% إلى 24,2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي ارتفع من 11,1 تريليون دولار عام 1980 إلى 84,5 تريليون دولار 2018. ولهذا دلالة واضحة على التطور العاصف للصين الشعبية.

هناك الكثير من المبادئ والقوانين والعبر والدروس الناظمة للتجربة الصينية، تحتاج إلى دراسات بحثية، ليس هنا مجالها. لكن تملي الضرورة تدوين الإعجاب والتقدير بالتجربة الصينية العبقرية، والتمني للقيادة والشعب الصيني المزيد من التقدم والرخاء وتحقيق كامل الأهداف، التي رسمتها القيادات الصينية المتعاقبة، والتي يتمثل دورها، ويعكس إرادتها حاليا الرئيس شي جين بينغ والحزب الشوعي الصيني، الذي يعد 90 مليونا، وايضا الحكومة الصينية. وكل التحية للشعب الصيني في ذكرى استقلاله الـ70.

لم اتوقف امام تجربة مبادرة "الحزام والطريق" الرائدة، والتي تمثل نقلة نوعية في مسيرة الصين الاقتصادية، وفي قدرتها على الربط بين الاقتصاد الصيني العملاق واقتصادات العشرات من الدول، بفضل إعادة إحياء طريق الحرير التاريخي. والتي تستحق قراءة خاصة.