متى يكون القتلُ من الفظائع؟
ومتى تصبحُ الفظائعُ مجزرة؟
كم قتيلاً يجعل الأمر مجزرة؟ ثلاثون، مئة، ثلاثمائة؟
أو بعبارة أخرى: متى لا تكون المجزرة مجزرة؟
ومتى لا تكون الأرقام كافيةً لاعتبارها مجزرة؟
هي بعض من التساؤلات التي راودت مراسل صحيفة التايمز آنذاك روبرت فيسك، بعد عودته من مهمته الصحفية في مخيمي صبرا وشاتيلا إلى منزله إثر مشاهدته الجثث واطلاعه على كل نماذج القتل التي مورست بحق الضحايا المدنيين، كافية أن تقول إنّ هناك على أرض الجريمة كان شيئًا ممّا لا يصدقه ناظر ولا يحتمله عقل بشري .. سبعة وثلاثون عامًا على ارتكاب الإسرائيليين ومرتزقتهم المذبحة الجماعية الأبشع على مر التاريخ في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان.
وتحت حجة القضاء على ما تبقى من "إرهابيي" عناصر منظمة التحرير الفلسطينية والتي كانت قد غادرت لبنان بوساطة أميركية وبعد حصول رئيسها ياسر عرفات على ضمانات بعدم التعرض للمدنيين وحفظ سلامتهم، شنّت العصابات العميلة وتحت غطاء إسرائيلي واضح ترأسه آنذاك وزير جيشها ارئيل شارون هجومًا واسعًا على المخيم بعد أن أطبقت الخناق على كل منافذه.. جريمة تضاهي مثيلاتها من مجازر الحرب العالمية الثانية، استهدفت المدنيين ليس إلا..
بقي ياسر عرفات الهاجس الذي يؤرق مضاجع الاحتلال وقادته رغم مغادرته لبنان، إذ لم يكن هناك ما يبرر الهجوم على الأهالي سوى انهم فلسطينيون، تلك هي عقدة الإبادة التي كانت تبرر كل الفظائع، فرئيس حكومة الاحتلال آنذاك بيغن والذي قتل النازيون أهله في بولندا كان يسكنه هاجس المقارنة بين الحرب العالمية الثانية والغزو على لبنان فقد صوَّر نفسه في رسالة بعثها إلى ريغان كالزاحف على برلين للقضاء على هتلر، ولم يكن هتلر بالنسبة لبيغن إلّا ياسر عرفات.
لم تتمكَّن الأعوام السبعة والثلاثون من محو المجزرة الموثّقة في ضمائر الشعوب قبل دراساتها قصصًا خلّفتها الوحشية في أحياء وبيوت الفلسطينيين واللبنانيين الذي قضوا فيها.. ومن دون أن يسأل المجرمون عن جريمتهم أو يقدموا للعدالة حتى يومنا هذا، بقي الأمر في نطاق الإدانة.
مجزرة صبرا وشاتيلا لم تكن الوحيدة التي ارتكبها الاحتلال منذ بدء زرع كيانه في المنطقة والمجازر ولو تعددت إنّما الهدف كان وما زال واحدًا.. الدولة القومية اليهودية.. هو الحلم اليهودي كان وما زال يبرر كل شيء.. هذا الحلم لم يكف عن استهداف الفلسطينيين في الداخل والشتات إذ إنّ المقصود القضاء على الوجود الفلسطيني بأكمله، وهذا ما يفسر تكرار صبرا وشاتيلا كجريمة لها هدف واحد بأشكال متعددة وأمكنة مختلفة.
إنَّ كل ما يمارسه الاحتلال اليوم على الأراضي الفلسطينية من جرف أراضٍ وتوسُّع في الاستيطان على أراضي الفلسطينيين واقتحام البلدات والمقدسات وتصفية الأحياء في المعتقلات التي تضم ما يقارب السبعة آلاف أسير فلسطيني والتي تشكل بحد ذاتها مجزرة  تاريخية يومية، كل ذلك يصب في هدف تحقيق حلم السيادة الإسرائيلية على كل الأراضي الفلسطينية. فالاحتلال لم يخجل عبر التاريخ من مجازره ما دامت تشكل جسر العبور إلى دولته الموعودة، وككل قادة الاحتلال الذين سبقوه نلحظ اليوم كيف أنّ نتنياهو ينطلق في استرضاء جمهوره من خزنة وعود تهدد الوجود الفلسطيني، فكلّما توسّع نتنياهو في قرارات ضم الأراضي الفلسطينية وفرض السيادة عليها ارتفعت أسهمه حتى أنّ المستوطنين باتوا هم من يتحكمون بتقرير مصير قادتهم ووصولهم إلى كراسي الحكم.
نوايا الاحتلال وقادته لم تتغيّر عبر التاريخ تجاه فلسطين وشعبها ولو اختلفت الجريمة بزمانها ومكانها .. مفارق الشتات وحكاياها وصبرا وشاتيلا وكبائر المجزرة وفظائعها أسطورة شر تاريخية خطها الاحتلال ومرتزقته .. صبرا وشاتيلا حكاية وطن مسروق وإنسان يخوض معركة حق يولد كل يوم ولا تنتهي بالدماء فصوله.
*بقلم: الصحافية اللبنانية هلا سلامة