ليسَ هناكَ قضيّةٌ تستحقُّ التوقّفَ عندها كقضيةِ انتشارِ العنْفِ في العلاقاتِ اليوميّةِ بينَ المواطنينَ، وخاصّةً في نطاقِ الأُسرةِ والعائلةِ والمجتمعاتِ المحليَّةِ الضيّقة، وهي ظاهرةٌ تُهدِّدُ السِّلمَ الأهليَّ والرّوابط بينَ مكوّناتِ الشعْبِ الواحد. ويزدادُ الأمرُ خطورةً في ظلِّ تصاعدِ سياسةِ القمْعِ والإرهابِ والتنكيلِ اليوميّ الذي تمارسهُ قواتُ الاحتلالِ الإسرائيليِّ وقطعانُ المستوطنينَ ضدَّ شَعبِنا وأرضِهِ ومقدّساتِهِ وممتلكاتِه، وهو ما يستدعي مراجعةً شاملةً لمنظومةِ الضّوابط الأخلاقيّةِ التي يقومُ عليها البنيانُ المجتمعيُّ على كافّةِ درجاتِ التسلسُلِ بدءًا بالأسرةِ وانتهاءً بأدواتِ الحُكمِ والقوانينِ التي تضبطُ العلاقةَ بينَ السّلطةِ والمواطن.

ليستْ مشكلةُ العُنفِ الأُسَريِّ مسألةً طارئةً أو حديثةً، لكنّ الجديدَ هو استفحالُها بهذا الشكلِ رغمَ ما طرأ على المجتَمعِ من تطوّرٍ ثقافيٍّ وعَلميٍّ. ولعلَّ المرأةَ هي الضحيَةُ الأولى لعقليةِ الاحتكامِ إلى العُنفِ لحلّ كلِّ ما تواجههُ الأسرةُ منْ قضايا. فما زالت المرأةُ الحَلقةَ الأضعفَ رغمَ تنامي دورِها في كلِّ مجالاتِ الحياةِ، وهي الطّرفُ المعرَّضُ للمُساءلةِ والاتّهامِ بتبديدِ "شرَفِ" العائلةِ، بينما تَحمي العائلةُ الرّجلَ من نفسِ الاتّهام، ففي الوقتِ الذي لا تُحاسبِ ابنَها على الإخلالِ بما تعتبرُهُ حدودًا للأخلاقِ، نراها تستنفِرُ كلَّ ما فيها من نخوةٍ زائفةٍ ومخزونٍ من العُنفِ يكفي لتحريرِ مستوطَنةٍ بأكمَلِها وتُسَخِّرُ كلَّ ذلكَ ضدَّ أضعفِ حلقاتِها وهي البنتُ والمرأةُ عمومًا، دونَ أن يتوقّفَ "الرجالُ" المنتَفِضونَ انتقامًا "لشَرَفِهِم المهدورِ" لحظةً واحدةً أمامَ استهتارِهِمْ بِـ"شرَفِ" بناتِ النّاسِ في الأماكنِ العامّةِ وبشكلٍ أشدَّ وقاحةً في وسائلِ التّواصُلِ الاجتماعيّ.

يجبُ تحريمُ وتجريمُ المساسِ بالمرأةِ تحتَ ذريعةِ الانتقامِ لـ"شرفِ الرّجالِ"، فمَنْ يرفعْ يدَهُ في وجهِ أختِهِ أو ابنتِهِ أو زوجتِهِ يفقدْ الحقَّ بأنْ يُسمَّى "رجلاً"، وليسَ رجُلاً أيضًا مَن يَنهى عن خُلقٍ ويأتي بمثلِهِ، فازدواجيّةُ المعايير ليستْ مُصطلحًا فضفاضًا مُخصَّصًا لوَصفِ السياسةِ الأمريكيّةِ تجاهَ قضيّتنا الوطنيّة فقط، لكنَّهُ آفةٌ تأكلُ جذورَ مجتمعاتِنا التي يزدادُ دورُ النّفاقِ في تصرّفاتِها وسُلوكِها. ولا يمكنُ لنا أنْ نتقدّمَ خطوةً واحدةً إلى الأمامِ ما دُمنا نَحتَكمُ إلى نفْسِ المنظومةِ الأخلاقيّةِ التي كانتْ تَسمحُ بوأْدِ البنْتِ فورَ ولادَتِها والتخلُّصِ من "العارِ" المحتَمَلِ الذي يمكنُ أنْ تتسبَّبَ بهِ لو بَقيتْ على قيدِ الحياة! فلا شرَفَ لِمَنْ يمسُّ أختَهُ أو ابنتَهُ أو زوجتَهُ بأيِّ مكروهٍ تحتَ ذريعةِ النّخوةِ الجَوفاءِ انتقامًا لـ"شَرفِ العائلةِ"، وإذا كانَ هناكَ ما يستدعي مساءلةَ أحدٍ بتهمةِ ارتكابهِ لجريمةٍ أو جُنحةٍ فلا يحقُّ لأحدٍ اغتصابُ القانونِ وفرضُ شريعةِ الغابِ في مجتمعِنا الذي يحاصرُهُ الأعداءُ منْ كلِّ جانب.

مَنْ استَمْرأ إهانةَ المَرأةِ والتطاولَ عليها فليسَ منَّا، ويستطيعُ أن يُطلِقَ على نَفسِهِ كلَّ الأوصافِ والألقابِ، إلّا أنْ يُسمِّي نفسَهُ "رَجُلاً".

٢-٩-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان