ربطَت القيادات الصهيونية تاريخيًّا بين مشروعها الكولونيالي الإجلائي والإحلالي وبين الاستيطان الاستعماري، واعتبرته أحدَ أهم أدواتها لتكريس وتعزيز مشروعها الاستعماري في محطّاته التاريخية المختلفة وحتى الآن، لأنّه يؤمن لها أكثر من هدف في آن، أولاً أداة إحلال وإجلاء في وقت واحد؛ ثانيًا خندق أمامي للمشروع الاستيطاني الصهيوني؛ ثالثا مركز أمني متقدم في المربع الديمغرافي، الذي يقع تحت سيطرته؛ رابعا مركز اقتصادي تجاري، يساهم في تمويل ذاته، والمؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، ويساهم في تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي ككل؛ خامسًا مركز ديني واجتماعي وثقافي في الأرض الفلسطينية المغتصبة؛ سادسا عنوان من عناوين تعزيز الكراهية والحقد والعنصرية البغيضة، واستيلاب حقوق ومصالح المواطنين الفلسطينيين، وهو أداة تهديد للحياة الأدمية الفلسطينية في كلِّ مناحيها.
وعليه الاستيطان الاستعماري الصهيوني لا يقبل القسمة على الحياة مع الشعب الفلسطيني. كان وسيبقى خطرا داهما، وشرا ووباء مرفوضا، وملعونا بكل اللغات واللهجات والأعراف والقوانين الوضعية والشرائع الدينية الإسلامية والمسيحية. وهو أداة تفجير للعنف والإرهاب، والتخريب، ولن يكون يوما مصدر أمن، أو أمان لا للدولة الصهيونية، ولا للدولة الفلسطينية، ولا لاستقرار وتنمية وتطور المنطقة عموما.
ما ورد أعلاه مرتبط بما جرى صباح أمس حينما ألقى أحد الفلسطينيين عبوة ناسفة على مجموعة من المستوطنين بالقرب من مستعمرة دوليب (دوليف) بجانب عين ماء "بونين"، أو كما أشارت المصادر الأمنية الإسرائيلية، أنّها عبوة محلية الصنع وضعت على طريق عين الماء، وبغض النظر عن كيفية حدوث العملية الفدائية، كانت النتيجة قتل مستوطنة إسرائيلية وإصابة والدها وأخوها إصابات خطرة، ممَّا أثار ردود فعل أمنية وسياسية إسرائيلية، ودعت لعقد اجتماع أمني عاجل برئاسة رئيس حكومة تسيير الأعمال، وأطلق عتاة الفاشيين أمثال سموطريتش مواقف فاشية تتنافى مع ابسط معايير حقوق الإنسان، وتتناقض مع خيار السلام والتعايش، وتصب الزيت على النيران المتقدة تحت الرماد في الشارع الفلسطيني. كما وانتشرت الحواجز العسكرية لجيش الموت والجريمة المنظمة الإسرائيلي في محيط محافظة رام الله والبيرة من الغرب والشمال، وقامت بعمليات تفتيش واسعة، واعتدت على المواطنين بحثا عن منفذ (أو منفّذي العملية)، لعلها تعتقلهم ، ولكن على فرض أنَّها تمكَّنت من ذلك؟ هل سينتهي الصراع؟
ودون التوقُّف أمام تفاصيل هذه العملية، فإني أدعو القيادات والنخب السياسية والأمنية العسكرية والثقافية الإسرائيلية إلى محاولة قراءة درس العملية، وكل عمل يمكن أن يحدث كتداعيات في أوساط المجتمعين، والبحث عن مخارج واقعية وعقلانية لبلوغ لحظة السلام الممكن والمقبول وفق قرارات الشرعية الدولية ومرجعيات التسوية السياسية، والخروج بالنتائج القابلة للحياة، وتنسجم مع مصالح الجميع، ومنها: أولا أن ردود الفعل العنصرية والفاشية والعمليات الإرهابية المنظمة من الجيش وقطعان المستعمرين، أو تعزيز الاستيطان الاستعماري في الأرض الفلسطينية، لا يقدم أي خدمة للأمن الإسرائيلي، بل العكس صحيح؛ ثانيا البحث الجدي في الإسراع بإزالة كافة المستعمرات المقامة على الأرض الفلسطينية المحتلة في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، لأنَّ هذا الخيار أفضل الف مرة من أية غطرسة همجية إسرائيلية، لا تسمن ولا تغني من جوع، والقبول بمبدأ "الأرض مقابل السلام"، الذي تمَّ تبنيه في مؤتمر مدريد عام 1991؛ ثالثًا الكف عن إنتاج، وإعادة إنتاج الأساطير الوهمية والكاذبة في "الحق" بالأرض الفلسطينية، والعودة لجادة الحل السياسي، والابتعاد عن خيار الحل الديني؛ رابعا عدم الرهان على الوضع العربي والدولي القائم الآن، فهذا وضع مؤقت، وغير ثابت، وبالتالي من مصلحة إسرائيل وأميركا والعالم بناء جسور السلام العادل نسبيا، والمقبول، واغتنام الفرصة الراهنة بوجود قيادة فلسطينية جاهزة ومستعدة لبناء صرح السلام وفق خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، وضمان عودة اللاجئين على أساس القرار الدولي 194، وبناء مرتكزات التعايش والتطبيع وفق قرارات مبادرة السلام العربية، والمساواة والمواطنة الكاملة لأبناء الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل، وإعادة النظر بكل القوانين العنصرية المغرضة.
على القيادة الإسرائيلية أن تنزل إلى الأرض، وألّا تذهب بعيدًا في تغوّلها العنصري والاستعماري، وتؤصّل لبناء قاعدة السلام الممكن والمقبول، والتخلّي عن التحريض الأسود، والمسمم للأجواء، أكثر مما هي مسممة.