التجربةُ الأوروبيّةُ بعدَ كارثةِ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ هي تجربةٌ فريدةٌ في القُدرَةِ على تجاوزِ الخلافاتِ بينَ الشعوبِ والدُّولِ رغمَ تجارُبِ الحروبِ والصراعاتِ الطويلةِ والمريرةِ وخاصّةً خلالَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، فسَرعانَ ما أصبحَ أعداءُ الأمسِ في ألمانيا وفرنسا نواةَ الوحدةِ وقاطرَتَها ومركزَ الاستقطابِ فيها. ولا يتعاملُ الأوروبيونَ شُعوبًا ودُولاً مع ألمانيا الحاليّةِ كوريثٍ للدولةِ النازيّةِ بكلّ ما ارتكبَتْهُ من جرائمَ، وإنّما ينظرونَ إليها ولِما تُحقّقهُ من إنجازاتٍ اقتصاديةٍ وتقنيّةٍ وعلميّةٍ نظْرةَ الاحترامِ والإعجاب.

 

يَختلفُ الأمرُ كليًّا في حالةِ العلاقاتِ الأوروبيّةِ معَ روسيا، فعلى الرّغمِ من الدّورِ المحوريِّ الذي قامَ به الجيشُ الأحمرُ في تحريرِ الجُزءِ الأكبرِ من أوروبا والزّحفِ حتى قلبِ برلينَ والإجهازِ على نظامِ هتلر، فإنَّ روسيا الحاليةَ بالنّسبةِ لغالبيةِ الأوروبيينَ هي وريثُ الاتحادِ السوفياتيّ الذي ساهمَ بشكلٍ مباشرٍ في تقسيمِ أوروبا حتى سقوطِ جدارِ برلين سنة ١٩٨٩، وأخضعَ دُوَل أوروبا الشرقيّةِ لهَيمَنَتِهِ ولِحُكمِ الأحزابِ الشيوعيّةِ المواليةِ لهُ.

 

إذا استَثْنينا الفترةَ القصيرةَ التي أعقبت انهيارَ الاتحادِ السوفياتيّ فإنَّ العلاقةَ بينَ روسيا وأوروبا ظلّت تتّسمُ بالصراعِ الذي تؤجّجُهُ أمريكا بتواجُدِها العسكريّ المتزايدِ في دُوَلٍ كانتْ إلى وقتٍ قريبٍ تُشكّلُ مناطقَ نفوذٍ روسيّةً، وخاصةً في أوكرانيا عقبَ الانقلابِ الموالي لأمريكا والغربِ عام ٢٠١٤، وما تَبعهُ من قيامِ روسيا بضمّ شبهِ جزيرةِ القِرْمِ الذي قوبِلَ بعقوباتٍ اقتصاديّةٍ صارمةٍ ضدَّ موسكو، وهي عقوباتٌ كلّفت الاقتصادَ الروسيَّ خسائرَ فادحةً وأدخلَتْهُ في دوّامةِ الركودِ والانكماشِ، وهذا ما يحدُّ من قدرةِ روسيا على استعادةِ دورِها كقوّةٍ عظمى.

 

لقد وَجدتْ روسيا ضالّتها في القوى اليمينيّةِ الصّاعدةِ في أوروبا، وعملتْ وتَعملُ على تقديمِ الدّعمِ المباشرِ لكلِّ الحركاتِ القوميّةِ المتطرّفةِ في غالبيةِ الدّولِ الأوروبيّةِ. وليسَ منْ قَبيلِ المُصادفةِ أنْ تكونَ الأحزابُ المعاديَةُ للوحدةِ الأوروبيّةِ والمناهِضةُ للّاجئينَ والمتحالفةُ مع إسرائيلَ على علاقةٍ وثيقةٍ مع موسكو، نَشهدُ ذلكَ بشكلٍ واضحٍ في إيطاليا والنمسا والمجر، كما أنّ الدّعمَ الروسيّ للجبهةِ الوطنيّةِ اليمينيّةِ في فرنسا ليسَ سرًّا، إضافةً إلى التدخّلِ الروسيّ عبرَ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ للتأثيرِ على نتائجِ الانتخاباتِ لصالحِ القوى اليمينيّةِ في كلِّ دولِ الاتحادِ الأوروبيّ دونَ استثناء. فضلاً عنْ تدخّلِ روسيا لصالحِ المؤيّدينَ لخُروجِ بريطانيا منَ هذا الاتّحادِ خلالَ الاستفتاءِ الذي تمَّ تنظيمُهُ حولَ هذا الموضوع في حزيران/يونيو عام ٢٠١٦.

 

تخوضُ روسيا صراعاتٍ متعددّةً في نقاطٍ مختلفةٍ من العالمِ، وخاصّةً في المنطقةِ العربيّةِ وجوارِها وفي أوروبا، وهي صراعاتٌ تحكمُها المصالحُ الروسيّةُ، بعيدًا عن الدّوافعِ "الأيديولوجيّةِ" التي ميّزت سياساتِ الاتحادِ السوفياتي سابقًا. وتستطيعُ روسيا بقيادةِ بوتين أنْ تتدخّلَ لصالحِ النظامِ في سوريا وأنْ لا توفّرَ لهُ أو لحليفِهِ "حزبِ الله" أدنى درجاتِ الحمايةِ منَ الغاراتِ الإسرائيليّةِ المتكرّرةِ. كما يستطيعُ بوتين الاحتفاظَ بعلاقاتٍ مُميّزةٍ معَ إيرانَ وأنْ يقومَ في نفسِ الوقتِ بإقامةِ علاقاتٍ وطيدةٍ مع أكثرِ الحكوماتِ الإسرائيليّةِ تطرّفًا ويدعمَ نتانياهو في حملاتِهِ الانتخابيّةِ المتتاليةِ دونَ أنْ تفقِدَ روسيا صورةَ المُدافعِ عن الحقوقِ المشروعةِ للشّعبِ الفلسطينيّ. لكنَّ الهمَّ الأكبرَ من وجهةِ نظرِ المخطّطينَ الإستراتيجيينَ الرّوس هو مواجهةُ التمدّدِ الأمريكيّ في أوروبا والاقترابِ التدريجّيِّ لقواتِ حلفِ شمالِ الأطلسيِّ من تُخومِ روسيا والقضْمِ المستمرِّ لمناطقِ نفوذِها التاريخيّة.

 

ما عَجِزتْ روسيا وقبلَها الاتحادُ السوفياتيُّ عن تحقيقِهِ بقوّةِ "الأيديولوجيا" المدعومةِ بترسانةٍ نوويّةٍ مدمّرةٍ تسعى الآنَ لتحقيقِهِ من خلالِ تدَخُّلها المباشِرِ في رَسْمِ الخارطةِ السياسيّةِ في الديمقراطيّاتِ الغربيّةِ الهشّةِ، لكنّها هذهِ المرّةَ لا تبحثُ عن أحزابٍ شيوعيّةٍ لتساعدَها في تحقيقِ أهدافِها، وإنما تجدُ الأداةَ في الأحزابِ والقوى اليمينيّةِ، وكأنّ شعارَها قد أصبَحَ الآن: 

*يا أنصارَ اليَمينِ المُتطرِّفِ.. اتّحِدُوا لتَفكيكِ الاتّحادِ الأوروبيّ

 

١٦-٨-٢٠١٩

 

*رسالة اليوم*

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان