كشعب فلسطيني، على رأسنا قيادتنا الشرعية ممثَّلة برئيسنا أبو مازن بتجربته العريقة، وعمقه الثقافي والسياسي الممتد، ومعرفته الواسعة بتطورات الوضع الإقليمي من حولنا، والسجالات الواسعة التي تجري في العالم الواسع، وأبرز عناوينها اليوم هي الحرب التجارية، والتفلُّت من النظام الدولي القائم، ليس عندنا مشكلة مع أي رئيس أميركي سواء كان من الحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطي، وسواء كان أبيض أو أسود، وسواء كان ذا ثقافة منفتحة أو قيمًا منغلقة، وأن يكون هذا الرئيس يتمتّع بتفعيلة الحذر، أن لا يبدأ من نقطة الصفر، لأنَّ الانجراف في هذا الطريق يُشجّع الوصول دون قصد إلى مراحل الحرب الباردة التي قد تصل إلى الحرب الساخنة.
فمنذ مجيء الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب، وهو محقون بفكرة أنّه سيأتي بما لم تأتِ به الأوائل، ووقع اختياره على أن يسير في هذا الطريق المعقّد من خلال أقدم قضية في العالم، وهي القضية الفلسطينية التي نشأت فعليًّا مع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول الذي ترأسه ثيودور هيرتزل في عام 1897، أي قبل مئة واثنين وعشرين عامًا، وفكرته الأساسية البحث عن وطن لليهود الذين كانوا يعيشون أخطر مراحل (اليهودي التائه)، والذين كان الكثير ممَّن ساعدوهم لا يريدون أن يكثر وجودهم في بلدانهم، ومنهم سيّئ الذكر جيمس آرثر بلفور، وزير الخارجية البريطاني، الذي كان لا يريدهم في بلاده، ويريد في الوقت نفسه استخدامهم، لا سيما بعد ترسيخ مكانه قناة السويس فيما عُرِفَّ باسم شرق السويس، وخلق جسم غريب يحمي المصالح الأميركية، فبدأنا نسمع حكايات شاذة من حكايات الحنين اليهودي (حكاية أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وحكايات الوعد الإلهي، التي تبنّاها اللورد بلفور وصاغها في وعده المشؤوم الذي أصبح الأساس لإنشاء دولة (إسرائيل)، وتداعيات إقامة هذه الدولة التي أصبحت دولة الشر في الشرق الأوسط.
فكلُّ محترفي السياسة في العالم يعرفون هذه الحقائق التي ذكرتها، وكل الرؤساء الأميركيين يعرفون هذه الحقائق، وهم بدرجات مختلفة منحازون لإسرائيل،  ترامب بدأ بداية صاخبة ذات ضجيج، وسطحية حتى المهزلة، والبداية هي إزالة القضية الفلسطينية من الوجود، كأنّها قشرة سطحية، وشنّ حرب بلا هوادة ودون سابق إنذار على كلِّ مفردات القضية الفلسطينية، مثل القدس وعمقها العربي الإسلامي، حضورها في الهُويّة والعقيدة، وقضية اللاجئين حتى أنّه حين اعتبر أنّ عدد اللاجئين أربعون ألفًا فقط، فإنّه كان من دون أن يدري ربما، يقوم بدور سطحي وتافه ومثير للتساؤلات، وقضية "الأونروا"، والحرب المالية، والحرب على مستشفيات القدس وربما لكي يستعيد نفسه كإنسان قبل السياسي القائد، عليه أن يعاقب من حرضه على ذلك، هل هو صهره جارد كوشنير؟ هل هو تلميذه في سمسرة العقارات جيسون غرينبلات؟ هل هو مستشاره للأمن القومي جون بولتون؟ أم غير هؤلاء، ومن هم، لأنّ هؤلاء لم يسخروا من ترامب فقط، بل سخروا من أميركا، وسخروا من النظام الدولي القائم، وتجاهلوا موازين القوى الفعلية والمصالح الحيوية للآخرين، ولا بدّ للذين حرَّضوه على ذلك أن ينكشفوا لكي يلاقوا العقوبة التي يستحقونها.
بعد فشل الهجوم الترامبي ضد القضية الفلسطينية، وضد القيادة الشرعية الفلسطينية، وضد هذا الشعب البطل وهو الشعب الفلسطيني، بل إنّهم نجحوا في جعل جسم زائف اسمه "حماس" يتورّط في الانقسام، ليكون الانقسام بمثابة "عقاب أخيل"، بينما "حماس" النسخة الفلسطينية من الإخوان المسلمين ليسوا بمستوى الوعي الذي تتطلّبه المعركة.
فشلت المراهنة الأولى، صفقة القرن ماتت في رحم أصحابها، ورشة البحرين مهزلة تثير الرثاء، لابد أن ترامب يعرف ذلك بالتفاصيل، ولأنّه قرّر الدخول في السباق الانتخابي 2020، فقد بدأ بتحري الدقة، بدأ يتصرّف بوعي جديد، ورغم اللهجة الصاخبة فإنّه في الأحداث الأخيرة، في الخليج قلب المنطقة أصبح أقل استجابة لهمسات أو صرخات التهديد والوعيد، ربما عليه أن يدعم هذا التوجه الجديد بمزيد من التدقيق في إدارته حتى لا يقودونه إلى الندم حيث لا ينفع الندم.