رفض ياسر عرفات أن يتنازل عن القدس ليس لأسباب دينية فقط، أو لأسباب وطنية أو قومية فقط، وإنَّما كانت الحقيقة الأخرى متمثَّلة برفض بِدعة وزيف "الحق" الصهيوني بالقدس، وما سيستتبع ذلك من تأبيده في كلِّ فلسطين والمنطقة.
لقد رفض أبو عمار مكوَّن الرواية اليهودية الصهيونية الاستعمارية الخرافي الذي يفترض القدس أنّها أورشليم التوراة، وبالتالي يفترض أنَّ الورَثة الدينيين اليوم لقوم بادوا لهم حق الادّعاء بالرواية.
أصرَّ ياسر عرفات على حق الرواية والتاريخ العربي الفلسطيني الذي لا يزول، وكانت هذه النقطة بالذات، أي التأكيد على الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني، جذر إعلان الاستقلال الفلسطيني، ثُمَّ جذر مرافعات الرئيس محمود عبّاس المتكرّرة في كلِّ محفل إقليمي ودولي.
لم يكن ليتبادر في ذهن أي عربي وفلسطيني واعٍ أنَّ دولةً على جزء من التراب الفلسطيني -بما تمثّله من تنازل سياسي كبير- تعني تنازلاً تاريخيًّا عن الأرض والرواية والوطن.
فالكيانات السياسية اليوم في أرض فلسطين مهما تسمَّت هي على أرض فلسطين، ووجودها طال أم قصر لا يؤثّر البتّة على الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني لنا في أرضنا وروايتنا، كما لم يؤثِّر في جنوب إفريقيا كمثال.
إنَّ منطق التمسُّك والتشبُّث والصمود في هذه الأرض كلّها من شعبها ومن أُمّتها هو منطق طبيعة الأشياء ومنطق طبيعة الأمور التي تجعل من الصمود ارتباطًا بالتعبوي الايديولوجي الجذري، وتجعل السياسي ذاك المرتبط بالمرحلي وبالمتغيّر حيثُ حركيّة القوى والمعسكرات واختلاف التحديات وانزياح القوى وعدم ثباتها.
إنَّ رسوخ "العقيدة الوطنية" لا يمكن انتزاعها من صدور وقلوب ملايين الفلسطينيين بل والعرب والمسلمين والمسيحيين في كلِّ العالم بهذه الأرض وهذه الرواية، لأنَّها ببساطة تتّفق مع معطيات التاريخ والعِلم، ومع فهم الصراع على هذه المنطقة في سياقه الاستعماري الاحتلالي الإحلالي.
إنَّ هذا الصراع العربي-الصهيوني صراعٌ لا علاقة له البتّة بدين أو خرافات "تناخية" مدّعاة، ولا علاقة له بتاريخ موهوم ولا يحزنون.
إنَّ مكوّن الثبات والمصابرة والرباط والثورة والصمود هو أصل تشكُّل النضالية والجهادية والوطنية الفلسطينية التي تأبى التقوقع والإقليمية، وتربط كلَّ أحرار الأمة والعالم بفلسطين كقضية نضالية عالمية تنهد نحو الحُريّة.
إنَّ الصمود كمكوّن رئيس هو ما جعل من الشخصية النضالية الفلسطينية عنيدة إلى درجة أنَّ هناك من ظنّوا في أمة العرب نتيجة رفضنا المخطط التصفوي الأمريكي الجديد أنَّنا نضرب رؤوسنا بالصخر!
هم ظنّوا، وما فهموا أنَّ هذا الصمود مُكوِّن أصيل وملازِم للفلسطينية بمعناها النضالي الذي يشمل مناضلي الأمة والعالم.
تاهت الأصوات العربية التي تساوقت مع المخطط الأمريكي التصفوي، وجادلت على المكاسب القريبة الآنية الموهومة وضحَّت بالأمن القومي العربي الذي مكمن الخطر الرئيس عليه هو وجود الكيان الاستعماري الصهيوني الذي زُرع زراعة غريبة ومقصودة مهما روي بالدماء فلن ينجح أن يفرض نفسه حديقة بهيّة في صحراء الأمة.
تاهت الأصوات العربية، وسقطت التجربة الإسرائيلية العنصرية الاستعمارية في محاولة إظهار نفسها ديمقراطية الشرق الأوسط .إذ لا تلاقي مطلقًا بين الديمقراطية والاحتلال أو بين الديمقراطية والاستعمار أو بين الديمقراطية والعنصرية، هذه العنصرية التي باتت تزيّن رؤوس قيادات اليمين الحاكم في "إسرائيل".
إنَّ المساعي التي تحاول إضعاف الموقف الفلسطيني الموحّد، وهي ترى تناقضها مع عدو آخر مفترض يتقدَّم على الزرع الغريب، هي محاولات بائسة لأنَّ توازنات المنطقة بكل مركّباتها الجغرافية-السياسية التاريخية هي في حِراك دائم منذ مئات بل آلاف السنين بين صعود وهبوط لأنَّها مكوّنات مشتقة من ذات المكان والحضارة والثقافة تنشط أحيانًا بالاقتراب وتنشط أحيانا بالافتراق، في صراع دائم مرتبط بالحلول.
ولم يكن لأي مكوّن خارجي عن منطقتنا إلّا أن طُرد أو اندثر أو اندمج كما حصل مع الفرنجة ومع المغول ومع المماليك، وهذه هي صيرورة التاريخ والحقيقة في وطننا ومنطقتنا فإمّا اندحار، وإمّا اندماج يأخذ قوانين التاريخ.
الفلسطينيون ذوو الرؤوس اليابسة ليسوا عدميين أبدًا، وهم ليسوا غوغائيين، بل هم أتقنوا الكفاح والمواجهة بأدواتها، كما خبروا السياسة بواقعيتها ومصالحها وعمليانتها، واكتسبوا الاستقلالية بالدم مع نُظُم الشعارات الفارغة لمثل هذه الأيام.