صراع الإرادات بين أنصار السلام والمتخندقين في خنادق الاستعمار والحرب الإسرائيليين يزداد ويتّسع بالمعايير النسبية، وضعف تيار السلام قياسًا باتساع وتنامي تيار اليمين واليمين المتطرف في أوساط المجتمع الإسرائيلي، لم يوقف للحظة المحاولات الجادة لأنصار السلام من تعزيز حضورهم، ومكانهم في الخارطة السياسية والأكاديمية والثقافية عمومًا في المجتمع الإسرائيلي، لأنهم لم يستسلموا لإرهاب حكومة نتنياهو المنحلة، ولا لتحريض المنظمات الصهيونية الفاشية، التي تقوم بشكل منهجي بتهييج الشارع اليميني المتطرف ضد كل صوت إسرائيلي يدعو للسلام، وينادي به، ويحفّز الآخرين على التخلي عن سياسة الخوف والخشية من سطوة أعداء التعايش.
وصلتني أمس الأربعاء صيغة بيان سياسي صادر أمس الأول، عن عدد من الأساتذة الجامعيين الإسرائيليين، ترجمه الأخ توفيق أبو شومر عن العبرية، دعوا فيه الحكومة الألمانية إلى إعادة النظر في قرارها من حركة المقاطعة  الفلسطينية والإسرائيلية والعالمية (BDS)، جاء فيه: "نناشدكم بألا توقفوا الدعم المباشر، وغير المباشر المقدّم للجمعيات الفلسطينية والإسرائيلية، التي تدعم حركة المقاطعة لبضائع المستوطنات، لأنها تناضل ضد الاحتلال الإسرائيلي".
بيان سياسي مهم لا تزيد عدد كلماته عن العشرين كلمة، وقع عليه 78 أستاذًا جامعيًّا من الجامعات التالية: 24 أستاذًا من الجامعة العبرية، 24 أستاذًا من جامعة تل أبيب، 11 أستاذًا من جامعة بن غوريون في النقب، 9 أساتذة من جامعة حيفا، 5 أساتذة من معهد وايزمان، و5 من الجامعة المفتوحة. هذا الأمر أثار سخطًا، وردود أفعال تجلَّت في الحملة الشعواء، التي أعلنت عنها جمعية "إم ترتسو" اليمينية المتطرفة، والمختصة بمطاردة أساتذة الجامعات المناصرين للسلام، والذين وضعتهم تحت يافطة اليسار. فأعدّت مباشرة قائمة بأسمائهم، وأصدرت بيانًا تحريضيًّا ضدهم، وعمَّمته على الشارع الإسرائيلي، وجاء في بيانها: "لا يوجد في العالم مثل هذه الظاهرة، إن أساتذة يتقاضون مرتباتهم من دافعي الضرائب الإسرائيليين، يدعون لمقاطعة البضائع الإسرائيلية، ويشجّعون اللاسامية، ويدعمون حركة BDS". وتابع بيانها: "إن وضع علامات على بضائع المستوطنات يذكرنا بالعهد النازي".
لنلاحظ جميعًا ما جاء في بيان الجمعية المعمّد بالكراهية، وتشجيع الاستيطان الاستعماري، ورفض خيار السلام، ومحاربة حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، وفي ذات الوقت ملاحقة أي صوت إسرائيلي يدعم ويناصر خيار السلام، ليس هذا فحسب، بل ومطاردته، ووصفه بأبشع التهم، ومساواته مع أرذل الصفات القميئة، التي تربّى عليها الشارع الإسرائيلي، كي يتم فصله مباشرة عن المجتمع، وعزله، وفرض طوق عليه، ومحاصرته كأنّ صوته يشبه "نهيق الحمار".
ومن التهم الجاهزة في قاموس دولة الاستعمار الإسرائيلية والحركة الصهيونية لمحاربة أعدائها وخصومها "معاداة السامية" و"النازية"، التي وردت في بيان جمعية "إم ترتسو". ويعود استخدام هذه التهم، لأنها تنفذ مباشرة في الوعي الصهيوني، وكونها تكرّست كلازمة لغوية لكل صهيوني يريد تبرير وتسويغ خياره الصهيوني الاستعماري، وبهدف استقطاب الشارع ضد الأصوات العقلانية والمؤيدة لخيار السلام. وأضيف لها في العقد الأخير، وتحديدًا زمن حكومات نتنياهو، مفهوم اتهامي جديد يُطلق على الخصوم، وهو مفهوم "اليسار"، وكأنّ اليسار تهمة موازية للنازية، أو معاداة السامية، ولم يتم هذا الخلط عن جهل، أو بشكل عفوي، بل العكس صحيح، بتعبير آخر، جاء عن سابق تصميم وإصرار بهدف عملية التشويه لمفهوم اليسار، كأنّه "وباء" أو "جرب" يفترض الابتعاد عنه، حتى لا ينتقل فايروسه للمجتمع. وهو بالضبط ما فعله نتنياهو، رئيس الحكومة المنحلة، والمطارد بقضايا الفساد، مع معارضيه حتى من داخل مواقع اليمين واليمين المتطرف، ومن داخل حزب الليكود، فيرفع في وجوههم سيف الاتهام باليسار للتشهير بهم.
78 أستاذًا جامعيًّا، هو عدد غير كبير، ولكنّه عدد مهم في المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، التي تصنع الرأي العام في أوساط نخب الشباب من الجنسين، ويعكس تصميم أولئك الأساتذة على توصيل صوتهم، صوت السلام لكل العالم، وخاصة لأقطاب الدول المعادية، أو المتواطئة مع خيار دولة الاستعمار الإسرائيلية، كما فعلت ألمانيا وبرلمانها "البوند ستاغ" مؤخّرًا بالمصادقة على قانون يعتبر حركة المقاطعة، حركة غير شرعية، ومتناقضة مع القانون، فجاء بيان الأساتذة ليدقّ جرس الإنذار في ألمانيا، أن تتوقّف عن سياساتها المرتهنة لخيار اليمين الصهيوني المتطرف، الذي يمثّله نتنياهو وأضرابه. بيان الأساتذة يستحق التقدير والثناء، ودعم حركتهم في صناعة السلام.